تحرير نينوى.. تفاؤل حذر

ت + ت - الحجم الطبيعي

مع تحرير مدينة تلعفر الذي جاء سريعاً تكون محافظة نينوى قد عادت بكاملها لأحضان العراق بعد هزيمة تنظيم داعش المدوية في عاصمته المزعومة الموصل في وقت سابق، عمليات عسكرية ضارية دامت لما يزيد على عشرة شهور خلفت خسائر باهظة بشرية ومادية وأسفرت عن تهجير ما يقرب من المليون من المدنيين وترتب على ذلك معاناة إنسانية لم تستطع السلطات المختصة والمنظمات الدولية التخفيف منها بشكل مرضٍ للنقص الكبير في الموارد المخصصة.

من الصعب التنبؤ بمسارات الأحداث في المحافظة في المرحلة المقبلة التي قد لا تكون أسهل من سابقتها فهناك غموض يتعلق بالملف الأمني الشديد الحساسية بسبب التعقيد في التركيبة السكانية للمحافظة والتراكمات السياسية والديموغرافية غير المحسوبة التي تركتها سنوات احتلال داعش الثلاث على مدينة الموصل بالذات وهو ما يجعل مهمة التعامل مع تداعيات ذلك صعبة ومعقدة.

فعودة المحافظة إلى سابق عهدها أمر غير قابل للتحقيق لأن وسائل ذلك لم تعد موجودة ولأن ثمة شكوكاً جدية حول النوايا والإرادات محلياً وإقليمياً. فالتعامل مع أوضاع هذه المحافظة الكبيرة لن يكون مهمات هندسية تتناول تشغيل المرافق الأساسية وإعادة أبنائها المهجرين إلى أطلال مدنهم المنكوبة فحسب وإنما مهمات سياسية معقدة قد لا تقوى حكومة العبادي على المضي قدماً فيها من غير الاستعانة بقوات التحالف في مهام عديدة أبرزها التصدي للتدخلات الإقليمية وفرض الأمن الذي هو شرط أساسي لإعادة إعمارها.

ليس هناك سيناريو موحد لمقاربة الأوضاع الإدارية والأمنية لهذه المحافظة المتنازع عليها أو على أجزاء منها من قبل قوى وأحزاب من داخلها وخارجها تمتلك من غير استثناء ميليشيات مسلحة لفرض أجندتها.

وقد تكون هزيمة داعش فرصة مناسبة لتحول الخلافات بينها إلى صراعات مسلحة. فقد عملت هذه القوى وبدوافع عرقية أو دينية أو مذهبية أو ثقافية على وضع وإنضاج رؤى وتصورات لمستقبل المحافظة تتطلب إجراء تغييرات إدارية وديموغرافية لا تصب بالضرورة في صالح أهلها قدر ما تخدم أغراضها أو أغراض الجهات التي تقف خلفها.

مستقبل المحافظة ينبغي أن يقرره أهلها في ظروف طبيعية يسود فيها الأمن والطمأنينة ولعل أفضل ما يمكن أن تركن إليه حكومة العبادي لمقاربة التعقيدات وتهدئة الأجواء المتشنجة في المحافظة هو استبعاد جميع السيناريوهات التي لم يكن لأهل المحافظة دور في وضع أي منها وعدم المساس بحدودها الإدارية ووضعها الديموغرافي لفترة انتقالية محددة.

على المستوى السياسي عززت معارك تحرير محافظة نينوى موقع رئيس الوزراء حيدر العبادي بشكل كبير وأسهمت كذلك بإعادة بعض الاعتبار للقوات المسلحة العراقية التي فقدت الكثير من هيبتها بفعل سياسات التقزيم والتهميش التي استهدفتها بشكل مدروس ومنظم منذ عام 2003، إلا أن من الصعب القول بأنها ستسهم بتصحيح مسار العملية السياسية نحو دولة المواطنة المنشودة يستفيد فيها المواطن من الحريات المتاحة ومن ثروات بلده على أكمل وجه.

فهناك صعوبات جمة في الطريق فالمعركة مع تنظيم داعش لما تنتهِ طالما بقي التخندق الطائفي واستمرت الانتهاكات على المستوى الإنساني في سياقات الاستمرار بتبنيه والتي شهدنا الكثير منها خلال معركة تحرير المحافظة، كما أن الاحتقانات السياسية بين الفرقاء لا تزال على أشدها وهناك صراعات أخرى مؤجلة قاربت استحقاقاتها مع التنافس في توزيع إرث داعش.

هزيمة داعش في محافظة نينوى لا تفتح باب التكهنات حول مستقبل المحافظة فحسب بل حول مستقبل العملية السياسية المتعثرة في العراق بسبب التشظي المجتمعي والتخندق العرقي والطائفي الذي لم تتراجع قوته، فالمحاولات التي تبذل نحو ذلك تصطدم بعقبات غير سالكة بفعل عوامل إقليمية تغلغلت بعمق في هيكلية العملية السياسية .

ولا تقل أهمية في تأثيراتها السلبية عن عوامل التشظي الداخلي فهي متداخلة ومتفاعلة معها. فالولايات المتحدة التي أسقطت النظام السابق ومعه الدولة العراقية لم تفعل ما فيه الكفاية لمواجهة مرحلة ما بعد الغزو أو لأنها لم تكن مستعدة لذلك وإن تقديراتها لمستوى قوة التأثيرات الإقليمية لإعاقة بناء الدولة لم تكن صائبة.

إلا أن الصورة ليست قاتمة تماماً إذ برغم وجود الكثير من العوامل المحبطة هناك ما يبعث على بعض التفاؤل الحذر فنحن نشهد منذ بعض الوقت تراجعاً في النفوذ الإيراني في أروقة صناعة القرار العراقي وهناك تحسن ملموس في علاقات العراق مع محيطه العربي.

كما أن الولايات المتحدة عادت لاستلام زمام المبادرة في رسم سياسات منطقة الشرق الأوسط مع مجيء الرئيس ترامب للبيت الأبيض مما سيكون له أثر مباشر على انحسار الدور الإيراني في العراق وفي المنطقة عموماً. ونشهد كذلك تصاعداً في الدعوات من قبل قيادات مهمة لها رصيد شعبي واسع لحل الميليشيات وحصر حيازة الأسلحة بالأجهزة الأمنية للدولة.

 

Email