لا يزال ميراث الحقبة الاستعمارية بآثاره المعنوية والمادية والأخلاقية ماثلاً في الذاكرة التاريخية، إن في البلدان المستعمِرَة أو البلدان المستعمَرة.
يثور الجدل حول هذا الميراث حيناً ويتوارى حيناً آخر، ولكنه يظل باقياً وحياً على الجانبين، وفي فرنسا سار هذا الجدل في مسارين متناقضين أولهما، عبر عنه الرئيس إيمانويل ماكرون الفائز في الانتخابات الرئاسية، ففي أثناء حملته الانتخابية وصف هذا الميراث بأنه جرائم ضد الإنسانية، وانطوى على وحشية وبربرية.
وفي زيارته للجزائر في فبراير الماضي طالب بلاده بضرورة الاعتذار عن الحقبة الاستعمارية، وعلى النقيض من هذا المسار حاول مرشح اليمين، الذي خرج من السباق الرئاسي في الدور الأول «فرانسوا فيون» التقليل من جرائم الاستعمار بقوله «إن فرنسا لم تكن مذنبة حين أرادت مشاركة ثقافتها مع شعوب أفريقيا».
تلك التصريحات مجرد عينة من الاختلاف والجدل بشأن النظر إلى ميراث الحقبة الاستعمارية، ولكنها مع ذلك عينة تنطق بالكثير المستتر وراءها من الحجج والنظرات المختلفة، فالرئيس الفرنسي بمطالبته بالاعتذار وتوصيف جرائم الحقبة الاستعمارية بالوحشية والجرائم ضد الإنسانية يعبر عن الكثيرين الذين يرون في هذه الحقبة استثناء في التاريخ الفرنسي، استثناء يستعصي على الاندماج في التاريخ الفرنسي العام، ويقف بحدة وتناقص مع قيم الحرية والإخاء والمساواة والكرامة، وهى القيم التي لا تزال تتمسك بها الجمهورية الفرنسية وتمنحها دوراً رمزياً في تاريخ القارة الأوروبية والعالم.
وذلك تأسيساً على ما انطوت عليه هذه الحقبة خاصة في بلد كالجزائر من مذابح وإبادة وقتل وعنف، بينما في حالة مرشح اليمين الخاسر ونظرته لهذه الحقبة الاستعمارية تكشف بجلاء عن الروح العنصرية والمتعالية إزاء شعوب المستعمرات، وتمجد نزعة التحضر والمدنية والثقافة كونها رسالة حملتها فرنسا.
يتحدث ممثل اليمين الفرنسي في الانتخابات الفرنسية وفي خلفيته القانون الصادر في فرنسا عام 2005 في الثالث والعشرين من فبراير، والذي يشيد بالجوانب الإيجابية للاستعمار الفرنسي في الجزائر والمغرب وتونس، وفي تلك الأقاليم التي تعرف في تاريخ الاستعمار الفرنسي بأقاليم «ما وراء البحار».
تضمن هذا القانون في مادته الرابعة النص على ضرورة اعتراف مناهج التعليم بالدور الإيجابي لوجود فرنسا في هذه الأقاليم ومنح التاريخ والتضحيات التي قدمها الفرنسيون خلال هذه الحقبة المكانة التي يستحقونها. و
قد صدر هذا القانون عن الجمعية الوطنية الفرنسية وهو ما يمنحه طابعاً وطنياً عاماً، ويستهدف هذا القانون إدماج هذه الحقبة في السياق التاريخي العام، ويزيل عنها الطابع الاستثنائي والتناقضات التي انطوت عليها.
دعوة الرئيس الفرنسي أثناء حملته الانتخابية لم تتحدد معالمها بعد، في سياق تشريعي وسياسي، يمكنه أن يدعم هذه الدعوى، ويؤكد طابعها الإنساني والأخلاقي، وربما يتطور هذا الأمر في المستقبل نحو التبني والاعتماد الوطني لمضمون هذه الدعوة.
خاصة أن الرئيس الجديد يحظى بالشرعية والشعبية والتمثيل البرلماني لحركته «إلى الأمام» في السلطة التشريعية، وبمقدوره أن يستقطب تعاطف العديد من المنظمات الحقوقية والإنسانية، التي ناهضت صدور القانون المذكور واحتجت ضد صدوره وكذلك العديد من الفئات المثقفة التي تنتمي للتيار الإنساني والمستنير والليبرالي في فرنسا.
وهذا المسار هو وحده الذي يضفي على آراء الرئيس الفرنسي المشروعية، وينفي عنها الطابع التكتيكي والانتخابي الذي أخذه عليه معارضوه عند صدورها.
تصريحات الرئيس الفرنسي بشأن الاعتذار عن الاستعمار تكسر الأحادية التي تميز الموقف الفرنسي الرسمي إزاء هذه القضية حتى الآن.
يتطلب الأمر تطبيق معيار واحد لقياس المعاناة الإنسانية والتعامل معها سواء تعلق الأمر بالجزائريين أو باليهود، وربما يكون ذلك مغزى دعوة ماكرون وربما يكتب لهذه الدعوة النجاح بشرط ابتعادها عن البغضاء والكراهية والانتقام وحصولها على الإجماع الوطني.
أما في ما يتعلق بالدول المستعَمرة فإن مطلب الاعتذار عن الاستعمار يعد مطلباً حيوياً على الأقل من زاوية رد الاعتبار لهذه الدول وشعوبها واحترام تضحيات أبنائها وأسلافهم من أجل الحرية والمساواة، ويعتبر مطلب الاعتذار عن الاستعمار ضرورة أخلاقية وإنسانية لتجاوز الماضي الاستعماري بآثاره المعنوية والمادية.