شركاء لا أتباع

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مفردات خطابه المتعصب للولايات المتحدة، لا يميز الرئيس الأميركي دونالد ترامب بين «أميركا أولاً وقبل الجميع» وبين «أميركا فوق الجميع».. لكنه غالباً ما يفهم على أنه يقصد المعنى الأخير؛ المشبع بحمولة كبيرة من المضامين الاستعلائية المثيرة للحفيظة.

مؤدى ذلك أن سيد البيت الأبيض يفتقر لبعض خصال الدبلوماسيين الخبيرين ورجال السياسة أو العلاقات العامة الحكماء؛ القادرين على تغليف أقسى الرسائل بأرق العبارات وزخرف القول. يقال إن القناصل الأوروبيين في الأقطار التي خضعت للاستعمار، كانوا يلقون بأشد الأوامر والتعليمات بغضاً على الزعماء المحليين؛ لكنهم كانوا يوشون صيغهم المقيتة المحتوى بأكثر التعبيرات لطفاً وحساسية ويختمونها بمجاملات تدير الرأس من قبيل «خادمكم المطيع»!

في دوائر الغرب، يأخذون على ترامب أنه رجل فظ، لا يحسن انتقاء ألفاظه وتوصيفاته.. ومن ذلك أنه لم يحدث منذ وجد حلف الناتو، قبل زهاء سبعين عاماً، أن تحدث رئيس أميركي إلى شركائه الأوروبيين بما يشبه التوبيخ والاستخفاف بهم والتفضل عليهم. وحده ترامب أقدم على ذلك قائلاً أمام قمة حلف الأطلسي في مايو الماضي إن «دول الحلف مدينة لبلادي، بسبب مساهمتها الكبيرة في الميزانية. ليس من العدل أن يتحمل دافع الضرائب الأميركي وحده كل الالتزامات، ويجب على هذه الدول أن تدفع ثمن حمايتنا لها منذ الحرب العالمية الثانية».

يحيل البعض هذه اللغة الجافة شبه المتعجرفة إلى عالم المال والأعمال والأرقام ومفاهيم الصفقات والربح والخسارة، الذي وفد الرئيس الأميركي منه.. لكن هذا التكييف لا يحظى بمقبولية لدى من يعرفون الرجل عن كثب، كما أنه لا يبدو مقنعاً بالنسبة لمن يملكون قدرة استكناه ما وراء الكلام. الأقرب إلى المعقولية بهذا الخصوص، أن الرئيس الأميركي يستند في تعاملاته إلى قناعات فكرية واجتماعية تاريخية؛ ترى أن الولايات المتحدة ليست كالآخرين؛ إنما هي صاحبة ريادة وتفوق وسيادة ورسالة، تسمح لها بأن تكون ليس فقط مختلفة عن الجميع بل وفوقهم أيضاً!

المحير في هذا المقام أن من يعتنق مثل هذه الرؤية، ربما تعين عليه الوفاء بثمنها واستحقاقاتها.. فالريادة والقيادة والسيادة وما شاكلها من المواضع والمواقع والمواصفات، لا تمنح لأصحابها على سبيل التشريف فقط، وإنما هي مكانات ترقى إليها الدول لقاء أثمان دفعتها وإسهامات، وربما تضحيات، وتكاليف قدمتها. والحق أن هذا ما فهمه الزعماء الذين تولوا إخراج الولايات المتحدة من دائرة العزلة خلف المحيطات إلى معترك الفعل والدور العالمي.

نود القول، إن أسلاف ترامب ساهموا بجنودهم وبأموالهم وبجهودهم لأجل انتشال أوروبا من براثن النازية والفاشية أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم أنهم سعوا لاحقاً إلى حمايتها من المد الشيوعي. حدث ذلك من خلال صيغ ومداخل مختلفة، في طليعتها رعاية حلف الأطلسي وتشجيع نشوء الصيغ التعاونية شبه القارية التي بلغت ذروتها بقيام الاتحاد الأوروبي.

وفى هذا السياق، لم يسبق لواشنطن أن أفصحت بفجاجة عن تبرمها من الأعباء الاقتصادية أو المالية أو السياسية؛ التي تحملتها لقاء هذا الدور القيادي. بالمقابل لم يحدث أن شكك الشركاء الأوروبيون أو الغربيون عموماً في الريادة الأميركية لعالم الغرب، وصدارتها وكلمتها المسموعة في كل دوائره وتجلياته التنظيمية.

لا ينكر الأوروبيون أن الظهير الأميركي حال دون انهيار المثل الغربية الأساسية، ومنع التعبيرات النازية والفاشية والشيوعية من اختطاف الحضارة الغربية. لكنهم لم يعتادوا على خطاب المن والمحاسبة بأثر رجعي، الذي ابتدعه الرئيس ترامب وراح يلقيه في وجوههم كلما واتته فرصة لذلك. وأغلب الظن أنهم لن يصبروا طويلاً على هذا السلوك الاستكباري الفظ.

هناك راهناً إرهاصات توحي بأن قادة القاطرة الأوروبية، الألمان والفرنسيين بخاصة، على وشك أن يواجهوا التبرم الأميركي المستجد على يدي ترامب وبطانته بتبرم مضاد.

تصريحات المستشارة الألمانية المخضرمة أنغيلا ميركل، معطوفة على آراء الرئيس الفرنسي الشاب الواعد ايمانويل ماكرون، تصب في اتجاه التلويح بإمكانية البحث عن القوة الذاتية والقطيعة مع زمن الاعتمادية على الأخ الأميركي الأكبر.

هذا الاصطكاك والاحتكاك من جانب إدارة ترامب بالشركاء التاريخيين والتعامل معهم بمنطق الأتباع، لا يتناسب وتوجه هذه الإدارة إلى مزيد من التدخل والتغلغل في القضايا الدولية الساخنة. فمن ينحو إلى الانتشار والتأثير الخارجي، يظل بحاجة إلى الأنصار والمحازبين والحلفاء في عوالم الآخرين.. ولذا فإن ترامب ملزم جبراً بترطيب الأجواء مع هؤلاء الشركاء. هذا وإلا كنا بصدد سياسة لا عقلانية بعيدة عن الرشد، يقوم صاحبها بتوجيه أشرعته في عكس الاتجاه الذي يريد!

Email