الدرس السقراطي

ت + ت - الحجم الطبيعي

تدين البشرية لليونان بمعجزتها المبكرة، الفلسفة والديمقراطية. الديمقراطية التي انعدم سقراط في ظلها، والفلسفة التي أعدم بسببها.

في لوحة للرسام الفرنسي جاك لوي دافيد 1787 بعنوان موت سقراط، يبدو فيها سقراط جالساً على السرير وحوله تلاميذه، ويمد يده لكأس السم مطمئناً دون أن يلتفت إلى من يقدم كأس السم له، فيما زوجته تخرج من الباب.

وتجرع سقراط السم، تنفيذاً لحكم الإعدام الذي صدر بحقه، بتهمة إفساد الشباب بأفكاره الهدامة، وراح يمشي بناء على أمر القضاة، حتى يشعر بالخدر يتسلل إلى رجليه، وحين لم يعد يقوى على المشي استلقى على السرير.

ثم تقدم منه ساقي السم وراح يضغط على قدميه مؤلِماً، ولما تأكد من عدم إحساس سقراط بالألم، تركه يعاني سكرات الموت، وما هي إلا دقائق حتى توقف قلبه، وغادر الحياة مبتسماً، لكنه لم ينس أن يقول لكريتو قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة: «أنا مدين لأسكليبوس، لا تنسَ يا كريتو أن تسدد له ديني». وهذا يعني أنه مدين لإله الموت بتحرر روحه من سجن الجسد.

ترى ما مضمون التهمة التي أودت به إلى الموت وأنكرها أصلاً؟ ما معنى أن أفكاره تفسد الشباب؟ قيل بأن سقراط قد أنكر آلهة اليونان!

وقيل بأن سقراط كان قادراً على الهرب ولكنه لم يفعل، وفي رده على دعوته للهرب نعثر على بعض من أفكاره الفلسفية. فسقراط لم يخف من الموت لاعتقاده بأن الموت يحرر الروح من أسر الجسد، وبالتالي تصبح خالدة. ثم إنه داعية للقانون والخضوع له، فهربه يعني إهانة للدولة وعدم التزام بقوانينها.

لماذا تقبل سقراط حكم الإعدام؟ ولماذا رفض أن يخالف الدولة؟ لأن سقراط خضع لمحاكمة فيها مجلس قضاة مكون من 500 من مواطني أثينا الأحرار فقط، وكان النظام السياسي آنذاك ديمقراطياً؛ أي أن الدولة كانت حاضرة بوصفها دولة القانون والحق. وقد جرى الاقتراع على الحكم وكاد أن يسقط الحكم بالاقتراع.

لا يكمن الدرس السقراطي في التهمة التي أنكرها سقراط أصلاً، بل في قبوله حكم القضاة دون تأفّف، لأنه كان يعتقد بعدالة الدولة. كانت المحاكمة حواراً بين سقراط وخصومه. قد يكون الحكم جائراً بحق سقراط، ولكنه حكم تم وفق أصول المحاكمات في دولة ديمقراطية.

ربما كانت المحاكمة ليست سوى مسرحية من مسرحيات أفلاطون وليست حدثاً واقعاً، وربما كان سقراط، بطل هذه المسرحية شخصاً مختلقاً، لا وجود له، لكن المعنى في المحاكمة وليس في التهمة.

وينقل عن سقراط أنه قال مرة: أقوم بما تقوم به أمي القابلة. والفرق بيني وبينها أنها تقوم بتوليد النساء الحوامل، أما أنا فأقوم بتوليد الأفكار. فالحوار عنده أداة العقل للوصول إلى المعرفة. فالمحاكمة كانت حواراً. أي إن صاحب التهمة ظل يمارس مهنة أمه حتى وهو في لحظات المصير.

المحاكمة العادلة التي حكمت على سقراط انعقدت قبل 2500 عام تقريباً. يجب أن يتذكر كل الناس هذا التاريخ ليكشف المعنى.

سقراط قد أعلى من شأن العقل ودوره في رحلة الإنسان في معرفة نفسه، حتى ليقال إن: «اعرف نفسك» الفكرة كانت وراء نشاطه كمعلم. وربما ألقت فكرة «اعرف نفسك» بظلها على موقفه الأخلاقي الذي ينطلق من احتقار الجسد والمادة معاً والإعلاء من شأن الروح والزهد.

غير إن أهم ما صدر عن سقراط قوله إنه لا يعرف. أن يكون سقراط لا يعرف، يعني بأن معرفته لا تتوقف عند حد، يعني بأن المعرفة سيرورة حية تولد وتتطور إلى ما لا نهاية. والمعرفة الجديدة قد تأتي على القديمة وقد تغني القديمة وهكذا دواليك.

وليست رمزية الدرس السقراطي إلا بالقول بأن سقراط الدولة والقضاء والحوار والعقل والزهد في وعي من حكى عنه.

 

 

Email