التسوية وعقدة الاستيطان

كل الجهود الرامية إلى إيجاد تسوية فلسطينية إسرائيلية نهائية على مدار أكثر من ربع قرن، فشلت في معالجة قضية التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في أحشاء الدولة الفلسطينية المزمعة.

يتصل وثيقاً بهذا الموضوع، التعقيدات المتعلقة بمصير مدينة القدس، فهذا المصير يثير مستقبل الاستيطان والمستوطنين، بالإضافة إلى دعوى إسرائيل بضم المدينة بشقيها الغربي والشرقي، المحتلين في عامي 1948 و1967 على التوالي، والسيادة الأبدية عليها. نحن إزاء واحدة من أكبر معضلات القضية الفلسطينية.

من أجل فض التشابك بين قضيتي الاستيطان ومصير القدس، كان الجانب الفلسطيني، وما زال، أكثر الأطراف التزاماً بالواقعية السياسية، حين قبل بتصفية الوجود الاستيطاني اليهودي في شرقي المدينة، واتخاذها عاصمة لدولته، وردف ذلك بإمكانية القبول بتبادل للأراضي بالتساوي في القيمة والمساحة، لتجاوز ما يقال حول صعوبة إزالة المستوطنات في ضواحي المدينة وبقية أنحاء الضفة المحتلة.

بهذا المقترح، أظهر المفاوض الفلسطيني قدراً فائضاً من إمكانية تجرع المرارة، في سبيل إنجاز التسوية، فالتصور الذي ارتضى به يتجاوز بكثير أحقيته التاريخية في عموم فلسطين، ويتخطى ما كفلته له القوانين والقرارات الدولية ذات الصلة، وآخرها قرار مجلس الأمن رقم 2334.

أيضاً، وفى إطار الحرص على التسوية وتطبيق حل الدولتين، تسامح الفلسطينيون مع فكرة بقاء المستوطنين المنتشرين بمعزل عن الكتل الاستيطانية الكبيرة في أماكنهم، بشرط التحول إلى مواطنين يخضعون للقوانين والسيادة الفلسطينية.

لقد طرح هذا العرض في مستهل العام 2014، إبان آخر جولة تفاوضية فلسطينية إسرائيلية، ويقال أنه حظي بمقبولية من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قبل أن يعود للنكوص عنه تحت ضغوط لوبي المستوطنين والنخب السياسية الموصوفة بالتطرف في الداخل الإسرائيلي، الأمر الذي انتهى بفشل تلك الجولة برمتها. الأعوام الثلاثة المنقضية منذ تلك الانسدادة التفاوضية، لم تشهد أي تحولات أو معطيات في البيئة الإسرائيلية، تبشر بالخروج من مستنقع الاستقواء والعنجهية.

من المقدر أن تكون المستجدات العاصفة في الرحاب العربية، معطوفة على المواقف الأميركية العاطفة بقوة على إسرائيل، والداعمة لها بلا حدود في عهد إدارة دونالد ترامب، ضمن العوامل المحبطة لأي احتمال بالتقدم على طريق التصور الفلسطيني لحل قضية الاستيطان.

أكثر من ذلك مدعاة للتشاؤم، ما صرح به نتنياهو مؤخراً بأنه «.. لن يتم إخلاء أي مستوطن من بيته تحت أي ظرف..».. وقد جاء ذلك التصريح رداً على منتقدي صدور ما يسمى بقانون تبييض المستوطنات، الذي يمثل صيغة تصادر حق الفلسطينيين في استخدام أراضيهم دون نزع ملكيتهم لها، فهو ينص على التعويض المالي للذين يثبتون ملكيتهم للأراضي المقام عليها المستوطنات العشوائية، أو تقديم أراضٍ بديلة لهم.

المدهش في متوالية هذه المواقف والبدع الإسرائيلية الشيطانية، أن القانون المذكور، تعرض للتسفيه والانتقاد الحاد من جانب معظم المعنيين بالتسوية الفلسطينية، كالجامعة العربية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان...، بل إن اسحق هيرتزوغ زعيم المعارضة في الكنيست الإسرائيلي، اعتبره تهديداً للديمقراطية الإسرائيلية.

وقد انضم إليه النائب العام الإسرائيلي أقيخاي مندلبليت، مشيراً إلى أنه «.. قانون غير دستوري، لن يدافع عنه أمام المحاكم الإسرائيلية في حال تقديم التماس لإلغائه..».

لكن نتنياهو وبطانته الحكومية لهم رأى مخالف، ولو كانت لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي نية حقيقية لتحريك جمود التسوية، لاستغل الساخطين على هذا القانون، ولا سيما أن فيهم قطاعات من الإسرائيليين، لمواجهة صقور الاستيطان والمستوطنين.

يبدو أن الفلسطينيين يقفون وحدهم بشكل عملي في مربعات المرونة والرغبة الجامحة، في تلمس كل السبل الممكنة والصعبة لحل قضية الاستيطان، والخلاص من كابوسه في عقر عاصمتهم ودولتهم العتيدة.

والحق أن هذا الموقف يحظى بتعاطف لا يمكن نكرانه من أطراف دولية مرموقة.. غير أن هذا التعاطف ما زال محشوراً في دائرة القول والمواقف النظرية.

وعليه، فإنه في حال ظلت إسرائيل بمفازة من العقاب الفاعل والحازم، فإن تفكيك عقدة الاستيطان وكسرها، كخطوة حتمية لتحقيق حل الدولتين، يحتاج إلى ما يشبه المعجزة.