ما حقيقة ثورة المعلومات؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

كثيراً ما يشار إلى الأربعين أو الخمسين عاماً الأخيرة بأنها عصر «ثورة المعلومات»، أي أنها العصر الذي شهد تقدماً غير معهود في وسائل تحصيل المعلومات، وتخزينها والتعامل معها، ونقلها من مكان لآخر، مهما كانت المسافة بينهما (مما يسمي أيضا بثورة الاتصالات)، حتى أصبحت كمية المعلومات المتوافرة لأي شخص في أي مكان أضعافاً مضاعفة لما كان يمكن أن يحصل عليه في منتصف القرن العشرين مثلاً، ناهيك عن أوله.

من المؤكد مثلاً أن أبي وأمي لم يشهدا هذه الوفرة في المعلومات وهذه السهولة في الاتصالات، كان ذلك الجيل يعتمد أساساً على الكتب لتحصيل المعلومات الجديدة، لا على الكمبيوتر والإنترنت، وكان الاتصال بين الأفراد يتم أساساً شفاهاً، إذ حتى الهاتف كان شيئاً جديداً في حياة ذلك الجيل، وأدى تطور الهاتف على هذا النحو إلى زيادة حجم المعلومات التي يمكن نقلها وتحصيلها.

استطاع الناس عن طريق الهاتف المحمول أن يحصلوا على معلومات فورية في كل لحظة: أين يوجد ابني أو ابنتي في هذه اللحظة، ومع من؟

(إذا أراد الابن أو البنت التصريح بذلك)، وإلى أي نقطة في الطريق وصل الزائر المرتقب، وما هي حالة الصديق المريض بالضبط في هذا اليوم، وهذه الساعة فضلاً عن سهولة إرسال باقة من الزهور له، حتى ولو كان في الطرف الآخر من الكرة الأرضية.

إذا عدت للمقارنة بين هذا وبين ما كان يحدث في جيل أبي وأمي، أذكر جيداً كيف كان الحال عندما كان لدّي أخ وأخت في إنجلترا في الخمسينيات، الأخ يحّضر للدكتوراه، والأخت في صحبة زوجها الذي كان موظفا هناك، لا أكاد أذكر بالمرة أن دق جرس الهاتف في بيتنا بالقاهرة معلناً اتصالاً من أخي أو أختي. كان هذا ممكناً تكنولوجياً، لكنه كان بالغ التكلفة.

بحيث لا يتحمله دخل أي منهما، ولا دخل أبي وأمي، وكان فضلاً عن التكلفة يتطلب انتقال أحد الطرفين إلى مكتب السنترال لإجراء المكالمة أو تلقيها، مما جعل الخطاب المكتوب وسيلة أفضل من كل النواحي، ومن ثم كان لساعي البريد أهمية واحترام فقد معظمها منذ ذلك الوقت.

كاد الخطاب المكتوب يختفي، وكذلك التلغراف الذي كان له رهبة واحترام شديدان. أما الكمبيوتر والإنترنت والبريد الإلكتروني الذي حلت محله، فحدث عنهما ولا حرج.

إنني أجلس في هذه الأيام في صحبة بعض أفراد عائلتي فألاحظ أن كلاً منهم يمسك بيده أو يحمل في جيبه نوعاً من أنواع الكمبيوتر الذي يحمل في داخله برغم صغر حجمه وخفة وزنه دائرة معارف كاملة وبأكثر من لغة.

 فإذا خطر لي تبادل الحديث وذكرت في كلامي اسم شخص أو حادثة قاصداً أن أذكر رأيي فيهما أو أعلق عليهما، أفاجأ بأحد الجالسين معنا وقد رفع هذا الكمبيوتر، ونظر إليه باحثا عن معلومات عنهما حتى ولو لم تكن ضرورية على الإطلاق لتكوين رأي أو ذات علاقة بالرأي الذي اعبر عنه، وكأن تحصيل معلومة جديدة أمر مطلوب دائما، ما دام متوافر وسهلاً إلى هذه الدرجة.

المنظر يبدو لي مدهشاً وسخيفاً للغاية بالمقارنة بما اعتدت عليه، أربعة أو خمسة أشخاص يجلسون معاً في صحبة من المفروض أن تكون حميمة، فماذا يحدث ؟ يرفع كل منهم كل بضعة دقائق، جهازه العجيب لقطع الحديث بذكر معلومة المفترض أن نرحب بها بصرف النظر عن أهميتها في السياق الذي توجد فيه.

لقد اكتشف المفكرون منذ قديم الزمن الفارق بين المعلومات وبين المعرفة، وكذلك بين تحصيل المعرفة والوصول إلى الحكمة، وعرف الفلاسفة اليونانيون القدامى هذا التمييز، ولم يتردد المفكرون الإسلاميون في التمييز بين علم ينفع الناس وعلم لا ينفع الناس، وأظن أن هذا التمييز يشترط في المعلومات لكي يعبر تحصيلها من قبيل المعرفة أن تكون معلومات عن موضوع مفيد.

فلا تكفي المعلومات عن أي شيء هبّ ودب. كما أظن أيضا أن المعرفة تفترض إدراك الارتباط بين بعض المعلومات، وغيرها، وأن تكون هذه الرابطة مما يعتقد الناس إدراكه، ما أكثر ما كنا نصف بعض زملائنا في المدرسة بأنهم «صمّامون» وهم الذين كانوا يحفظون المعلومات حفظاً دون فهم ودون فائدة ودون إدراك للعلاقات فيما بينها.

أما الحكمة فتزيد على المعرفة بأنها تفترض (فيما أظن) القدرة على الترتيب الصحيح للأولويات، وإدراك الأهمية النسبية للأنواع المختلفة من المعرفة والسلوك المترتب عليها.

فما الذي حدث بالضبط ليجعلنا ننسى هذه التفرقة بين المعلومات والمعرفة والحكمة؟ ونحتفل كل هذا الاحتفال بما نسميه «ثورة المعلومات والاتصالات؟» هل السبب هو أننا نغوص أكثر فأكثر، ويوما بعد يوم في حضارة تقدر الكم على حساب الكيف، ويفتتها الأكثر ولو على حساب الأهم، كما يفتتها الأسهل على حساب الأنفع؟ أظن أن هذا للأسف صحيح، وقد قال أحد ناقدي الحضارة الحديثة بحق إنها تجعلنا نظن أن كل ما أصبح ممكناً ولم يكن من قبل كذلك، هو أيضاً مرغوب فيه، بينما ليس صحيحاً أبداً أن الشيء الممكن تكنولوجياً هو دائماً جدير بالسعي من أجله.

Email