عن حجب الثقة.. أي ثقة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

تستفزني كثيراً الأخبار التي أقرؤها أو أسمعها عن قيام بعض البرلمانات ومجالس النواب العربية بحجب الثقة عن الوزراء في حكومات بلدانها بدعوى الفساد، بينما تسجل هذه البلدان مراكز متقدمة في قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم.

فقد جاءت 4 دول عربية ضمن الدول العشر الأولى الأكثر فساداً في العالم لعام 2016 ضمن القائمة التي تعدها منظمة الشفافية الدولية، التي تقول إن الدول الأكثر فساداً عادة ما تكون دولاً تشهد صراعات، وتتصف بضعف المؤسسات، مثل الشرطة والمحاكم، وتفتقر إلى الإعلام المستقل. وليس علينا سوى أن نبحث في عالمنا العربي عن الدول التي تنطبق عليها هذه المواصفات، لنصنفها ضمن الدول الأكثر أو الأقل فساداً، كي نعفي أنفسنا من الحرج فلا نتهم بالإساءة إلى دولة عربية لغرض أو نية خبيثة.

آخر الذين حجب برلمان بلادهم الثقة عنهم، وزير مالية دولة عربية تحتل مركزاً متقدماً في قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم منذ انهيار النظام السابق فيها، ومجيء نظام جديد موالٍ لدولة جارة كانت عدوة لها، ثم أصبحت تسيطر على مفاصل الحكم فيها بعد إزاحة النظام السابق بغزو أجنبي، وتسريح جيشها، وهدم بنيتها، والمجيء بعملاء موالين لها لتغيير خارطة الحكم والحياة فيها، حتى غدت مرتعاً للفاسدين وطلاب المال والسلطة، الذين نهبوا ثرواتها، وأفقروا شعبها، ودفعوا علماءها ومثقفيها إلى الهجرة منها، قبل أن يفتحوها للمنظمات والجماعات الإرهابية المتطرفة كي تحقق أحلامها، وتقيم دولتها الإسلامية المزعومة على أرضها.

هذا البلد العربي الذي يحتل مرتبة متقدمة في قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم، والذي حجب برلمانه الثقة عن وزير دفاعه قبل شهر تقريباً، بعد سلسلة اتهامات قدمها ضده نواب اتهموه فيها بالفساد المالي وسوء الإدارة، ثم تكرر السيناريو نفسه مع وزير المالية الذي كان قبل ذلك وزيراً للخارجية، هذا البلد يُعَدّ مثالاً صارخاً للعبثية التي نعيشها في عالمنا العربي، الذي تتصدع دوله، وتتحول إلى دول فاشلة تستبيحها الجماعات المتطرفة والميليشيات المسلحة، ناهيك عن الدول العظمى التي تقيم قواعدها على أرضها بموافقة حكامها الذين يدّعون أنهم منتخبون من الشعب، ولا ندري عن أي شعب يتحدثون؛ هل هو الشعب المشرد خارج وطنه، الذي تحول إلى قوافل من النازحين واللاجئين في مراكز الإيواء، الذين تتفضل عليهم بعض الدول بفتح حدودها لهم، وتغلق دول حدودها في وجوههم، وتطردهم دول أخرى فيتمددون على قضبان السكك الحديدية ليفرضوا وجودهم على تلك الدول؟ أم هو الشعب المضطهد المغلوب على أمره، المطارد داخل بلده من قبل قوات النظام والجماعات والميليشيات الدينية والطائفية المسلحة، حيث يُفرَز أفراده بالأسماء، ويُقتَلون على الهوية والدين والطائفة والعرق؟

في هذه الدول برلمانات فيها هيئات نزاهة تحارب الفساد، وفي هذه الدول مجالس قضاء أعلى، وفيها محاكم تجري تحقيقات وتصدر أحكاماً، ومع هذا يتفشى فيها الفساد، بل تتصدر قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم، الأمر الذي لا يخرج عن أمرين هما؛ إما أن منظمة الشفافية الدولية التي تتحفنا كل عام بتقريرها السنوي عن مؤشر الفساد تضحك على ذقوننا، وتفتقر إلى المصداقية التي تبني عليها مؤشرها، أو أن هذه الدول بحكوماتها ووزرائها وبرلماناتها وشعوبها تعيش في كوكب آخر غير الكوكب الذي نعيش عليه، نتنفس هواءه ونخضع لقوانينه.

العجيب أن جميع الوزراء الذين حجبت برلمانات بلدانهم الثقة عنهم قالوا إن لهذا الحجب دوافع سياسية، ووصفوه بأنه عقاب لهم وتصفية حسابات، لأنهم كشفوا ملفات فساد هائلة في الوزارات التي كانوا يتولونها، واعتبروه درساً لغيرهم كي لا يفكر بالاقتراب من عش الدبابير، بينما قال الذين حجبوا الثقة عن هؤلاء الوزراء إن هدفهم هو القضاء على الفساد، وتخليص البلاد من المفسدين الذين ينهبون خيراتها! وكلهم كاذب فاسد ومخادع.

طرح الثقة وحجبها، يا أصحاب المعالي والسعادة السابقين واللاحقين، إجراء حضاري، لا تعرفه إلا الدول التي تملك إرادتها، ولا تمارسه إلا برلمانات الشعوب الحرة المتحضرة، أما أنتم ودولكم فلا تملكون إرادتكم، تأتون بقرارات من الخارج، وتذهبون بقرارات من الخارج، خاضعين لإرادة من أتى بكم، الذي يملك قرار إزاحتكم من على الكراسي التي تجلسون عليها، والمجيء بآخرين غيركم مسلوبي الإرادة مثلكم، وربما أكثر منكم. شعوبكم مغلوبة على أمرها، مخدوعة من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، مقموعة عبر كل مراحل التاريخ التي مرت بها، تلك التي تغيرت فيها وجوه وتبدلت أيديولوجيات، لكن أساليب الحكم والممارسات لم تتغير، فلا تخدعوا أنفسكم بهذه العبارات التي ترددونها مثل الببغاوات.

سحب الثقة كان يمكن أن يكون له وقع مختلف لو كان للثقة بكم أصلاً وجود، لكن هذه الثقة التي تتصورون أنها سحبت أو ستسحب منكم ليست أكثر من مجرد وهم تعيشونه في مخيلتكم، وهي أيضاً وهم في مخيلة الذين يتصورون أنهم سحبوها أو سيسحبونها منكم.

وما بُني على وهم ومحض كذب وافتراء فهو وهم وخديعة كبرى، وسراب يطارده الواهمون فيهرب منهم، ولا تبقى منه إلا آثار أقدامهم التي تلوث الأرض التي يمشون عليها، وأنفاسهم المتقطعة التي تلوث الهواء الذي يتنفسون منه. وهذه البرلمانات الورقية الهشة التي تحاول حكوماتهم أن تكمل بها الصورة ليست أكثر من ديكور وواجهة خادعة لواقع بائس وحزين.

سحب البرلمان الثقة أم لم يسحبها فالأمر سيان، لأن فاقد الشيء لا يعطيه ولا يمنعه.

Email