بين تبريد الأزمات ومخاطر الترقب

ت + ت - الحجم الطبيعي

بدا واضحاً من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة والقمم التي صاحبتها لبحث قضايا مثل الأوضاع في سوريا والإرهاب، أو المناخ والبيئة.. أننا أمام عالم مأزوم، وأنه لا حلول مطروحة، وأن علينا أن نمر بفترة ترقب، أقصى ما يمكن عمله هو «تبريد الأزمات»، كما يحدث في سوريا، من خلال محاولات التوافق بين روسيا وأميركا للتوصل إلى «هدنة» وإلى إدارة للأزمة، على أمل حلها في وقت آخر!!

عوامل كثيرة تقود إلى هذا الوضع، لعل أهمها، ما تمر به أميركا، وهي تشهد أغرب انتخابات رئاسية يمكن توقعها بين ترامب وهيلاري كلينتون، وهي انتخابات – مهما كانت نتيجتها – فسوف يكون لها آثارها الخطيرة في الأوضاع في أميركا، وفي مستقبل الحياة السياسية فيها، وفي دورها في العالم.

الرئيس أوباما ألقى خطابه الأخير في الأمم المتحدة، وجاء باهتاً مثل السياسة الخارجية لأميركا في السنوات الأخيرة، وبات واضحاً أنه يريد الخروج من موقعه وهو محتفظ بالإنجازات الداخلية التي حققها، خاصة عبوره بأميركا من الأزمة الاقتصادية الهائلة عام 2008، كما يريد الخروج من موقعه، باعتباره الرئيس الذي أخرج بلاده من حروب ورطها فيها الجمهوريون (مثل العراق)، والذي أنهى العديد من الصراعات التي اشتبكت فيها بلاده لسنوات طويلة (مثل كوبا وإيران)، والذي حاول أن يحتفظ لبلاده بمكانتها عن طريق القيادة عن بعد أو «الحرب بالوكالة»، التي تتولاها على الأرض أطراف أخرى لتحقق المصالح الأميركية!!

بالنسبة للمنطقة العربية والشرق الأوسط، كانت نتائج هذه السياسيات كارثية، سواء بما رافقها من تحالف مع جماعات تدعي احتكار الإسلام، بينما هي أصل الإرهاب في المنطقة، مثل «الإخوان».. أو بإطلاق يد النفوذ الإيراني ليهدد المنطقة العربية، ويحاول ضرب استقرارها، ومد نفوذه إلى عمقها الاستراتيجي، والتورط في المحاولات المهووسة لإطلاق الفتنة المذهبية بين المسلمين، وزرع العداء بين الأشقاء من السنة والشيعة.

الآن تنتظر أميركا رئاستها الجديدة من بين هيلاري كلينتون، التي ينظر إليها باعتبارها من ستستكمل طريق أوباما، مع بعض التعديلات التي تبعث شيئاً من الحيوية للسياسة الأميركية في المنطقة، وبين دونالد ترامب، الذي لم تكن له أي صلة بالسياسة حتى شهور قليلة، والذي يمثل ظاهرة جديدة في الحياة الحزبية الأميركية، والذي لا يعرف أحد إلى أين يقود أميركا إذا فاز بالرئاسة.

انتخابات الرئاسة الأميركية، إعلان عن «دولة مأزومة» داخلياً وخارجياً، وأياً كان الفائز، فإن ما أظهرته المنافسات الانتخابية حتى الآن، سيظل يلقي بظلاله على المشهد السياسي الأميركي لسنوات طويلة، خاصة في ظل المشاعر التي تتعاظم، معبرة عن عدم الثقة «خاصة بين الأجيال الجديدة» في «المؤسسة» السياسية الحاكمة، وفي الهيئات المسيطرة على الحزبين الرئيسين «الديمقراطي والجمهوري».

والأخطر من ذلك، هو تعاظم مشاعر عدم الرضا عن النظام العالمي الذي يحكم الاقتصاد والتجارة العالميين، والذي كان يوفر القيادة لأميركا وحلفائها الغربيين بكل ذلك، ثم أصبح يمثل عبئاً على الطبقات المتوسطة الفقيرة، ويواجه الاتهامات بأنه نظام تم تفصيله على مقاس الاحتكارات العالمية في الداخل والخارج، لتزداد ثراء على حساب الفقراء.. دولاً أو شعوباً.

نفس التحديات سوف تجدها في دول أوروبا الثرية والقومية، مثل ألمانيا وفرنسا «بعد خروج بريطانيا لأسباب مشابهة»، والمثير هنا، أن الدولتين «مثل الولايات المتحدة»، تواجهان انتخابات قريبة، وتواجهان نفس الموقف، مع صعود تيارات يمينية متعصبة، تدعو للانغلاق، وتحاول الهروب من الأزمة باستحضار العداء للمسلمين. ومع وجود تيارات ليبرالية أو يسارية، أصبحت ترى في النظام العالمي الحالي تهديداً لمصالح الطبقات الفقيرة والمتوسطة. وتلتقي مع اليمين في الدعوة لتغيير هذا النظام أو الخروج منه «بدءاً من الخروج من الاتحاد الأوروبي»، أو على الأقل تعديل هذا النظام، ليصبح أكثر عدلاً وأقل انحيازاً للاحتكارات العالمية، التي أضرت بمحدودي الدخل في الدول المتقدمة، وسحقت الجميع في الدول الفقيرة.

وينعكس ذلك على الأوضاع السياسية قبل الانتخابات في أهم دولتين أوروبيتين، فالرئيس الفرنسي اليساري أولاند، تتراجع حظوظه تماماً في التجديد لولاية ثانية، وقد تجد فرنسا نفسها في موقف مشابه للولايات المتحدة، إذا جرت الانتخابات بين الرئيس السابق اليميني ساركوزي، وبين المتطرفة يمينياً ماري لوبان، إلا إذا توافق الوسط واليسار على مشرح يمكنه إنقاذ الموقف، مثل رئيس الوزراء الأسبق آلان جوبيه.

نفس الموقف تواجهه المستشارة الألمانية ميركل، التي تدفع – بالإضافة إلى الأزمة الأوروبية العامة – ثمن موقفها الإنساني من قبول اللاجئين لألمانيا، وهو ما يستغله اليمين العنصري هناك، خاصة مع تراجع الأوضاع الاقتصادية، في ظل الركود التجاري العالمي.

في ظل هذه الأوضاع، سنجد انكفاء على الأوضاع الداخلية، سواء من أوروبا أو أميركا، وانشغالاً بمحاولة منع انهيار النظام العالمي للتجارة، وهو أمر يحتاج لإصلاحات واسعة، ورؤية جديدة مع إدارات جديدة قادمة للدول الأكبر في الغرب بكل تأثيرها السياسي والعسكري والاقتصادي.

ومع حالة الترقب والانتظار وتبريد الأزمات في انتظار التغييرات في قيادات هذه الدول، سوف نرى محاولات لاستغلال الموقف من قوى دولية أو إقليمية، لتوسيع نفوذها في المنطقة، أو تحقيق مكاسب على حساب الدول العربية، إذا لم نرتفع لمستوى التحديات، وإذا لم نكن جاهزين لردع أي محاولة للتدخل في شؤوننا، أو العبث باستقرارنا، أو إشعال الفتنة بين شعوبنا.

Email