عن محاكمة بلفور

ت + ت - الحجم الطبيعي

إعلان الفلسطينيين عن نيتهم رفع دعوى ضد بريطانيا، على خلفية إصدارها تصريح بلفور قبل مئة عام، حقق بعض مراداته. ردود أفعال الإسرائيليين الأولية، أظهرت ارتباكاً واضحاً ازاء التعاطي مع هذا الإعلان. فبعضهم اعتبره مادة للسخرية والاستهزاء، بينما اتخذه آخرون على محمل الجد.

لا نعرف الكيفية التي ستفعل بها السياسة الفلسطينية هذا التوجه على الصعيد القضائي من الناحية الاجرائية، ولا نعرف على وجه الدقة تفصيلات المحاججة والدفوع متعددة الأبعاد؛ التي ستطرح بين يدي القضية. غير انه إذا كان الأمر جاداً لا مناورة فيه، فقد قدم الصهاينة الإسرائيليون أنفسهم قدراً معتبراً من المداخلات؛ التي تؤكد تهافت موقفهم وتعزز الادعاء الفلسطيني وتمنحه صدقية كبيرة.

هم يقولون مثلاً إن «التاريخ والقانون لا يقفان مع الفلسطينيين، كونهم يحترفون تزوير التاريخ ويحاولون زعزعة الصلاحية القانونية للاتفاقات الدولية التي تناقض أهدافهم». وهذه فرية مكشوفة تتعاكس على طول الخط والحرص الفلسطيني الفائض على التزام صحيح القانون الدولي وقرارات الأطر الساهرة على تطبيقه، ولاسيما الشق الخاص بمسار الصراع الصهيوني العربي على أرض فلسطين وجوارها، بدءاً من تفنيد حجية تصريح بلفور؛ مرورا بقرار التقسيم الشهير والقرار 242، وانتهاء بحل الدولتين والاعتراف بفلسطين الدولة. ولنا أن نذهب إلى أنه لو شاء الفلسطينيون محاسبة الجمعية العامة للأمم المتحدة بقضها وقضيضها، على الصحة القانونية لقرار التقسيم لعام 1947، لحق لهم ذلك وجاز.

وهم يقولون إن «دولة إسرائيل كانت ستقوم بدون وعد بلفور». وفي ذلك اجتراء على الوقائع وإنكار فج للدور البريطاني، الغربي الاستعماري عموما، في التأسيس لهذه الدولة الاستيطانية بغير الحق. خطورة ما اقترفه الانجليزي بلفور لم تكن تحديدا في تصريحه اللعين، وإنما في توابع التصريح والسياسات الإجرامية التي اتخذت لتطبيقه عملياً.

وذلك باستعمار فلسطين والعبث في خرائطها الجغرافية والاجتماعية السكانية والاقتصادية والسياسية، وصولاً إلى تهيئتها للتحول إلى «وطن قومي لليهود». واذا ما وضعت هذه الحيثيات والأفاعيل على بساط قضاء دولي عادل، سيكتشف الجميع كيف خرج الانتداب البريطاني عن التكييف القانوني السياسي الذي كان يدرج فلسطين، وليس اسرائيل، ضمن الكيانات المؤهلة للاستقلال عاجلاً.

بل وسيتضح للمحققين أن التصريح سيء الذكر، والذي عواره حقوقي وتاريخي، لم ينص على قيام «دولة يهودية» في فلسطين، وإنما تحدث عن «وطن قومي» لليهود، والفارق بين المفهومين كبير.

فكل الأوطان التي يقيم فيها اليهود هي أوطان قومية لهم، أم تراهم يعيشون فيها تحت بند الإقامة المؤقتة أو كلاجئين؟. ولو أن البريطانيين اتبعوا سبيل الرشاد وعدم الانحياز، لقبلوا بالعرض الفلسطيني الديمقراطي بأن تكون فلسطين دولة لكل مواطنيها الأصليين بما في ذلك اليهود. وللفلسطينيين أن يعتزوا اليوم بأنهم من أوائل الذين نحتوا هذا المفهوم: دولة كل مواطنيها.

وهم يقولون ضمن سياسة عض الأيدي التي امتدت لانتشالهم بأن «بريطانيا لم تف بوعد بلفور، حين قررت منع هجرة اليهود إلى البلاد». أي جحود يقف وراء هذه الأكذوبة؟. لقد استعمر البريطانيون فلسطين، التي يسميها المتقولون الصهاينة إمعانا في تخبئة شمس هويتها بـ«البلاد»، ونسبة يهودها لا تزيد عن 5% من السكان، وغادرها المستعمرون وقد بلغت هذه النسبة زهاء الـ40%، فمن أين جاء هذا الفارق الشاسع خلال ثلاثين سنة غير سياسة اغراق «البلاد» بالمستوطنين اليهود..

وهم يتبجحون والخشبة في عيونهم بأنه "لو حوكمت بريطانيا بسبب وعد بلفور، فسوف ينضمون إلى الادعاء عليها، ويسألون عمن منح اللورد بلفور أحقية منح الشعب اليهودي أرض إسرائيل؟ حسنا، ها هو سيادة اللورد وقد بات متهما من الصهاينة المعاصرين على فضل قدمه لآبائهم المؤسسين، بعد أن حفيت أقدامهم وهم يستجدون العواصم المتنفذة، في سبيل تبني ما صرح به قبل مئة عام!. مطلوب من خلفاء بلفور في لندن الرد على ظلامة الفلسطينيين، وعلى جحود الصهاينة واجترائهم وتذكيرهم بما نسوا من الحقائق في وقت واحد.

Email