نحو حضارة الاعتراف

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحيلنا مشكلة الاعتراف في حضارتنا الراهنة إلى أكثر أشكال العنف التي نعيش الآن. أجل هناك مشكلة في قضية الاعتراف حالة من حالات عدم الاعتراف قد تعبر عن نفسها باستخدام القوة.

يظهر الاعتراف في العلاقات الدولية في صورة الاعتراف الدبلوماسي بين الدول، فالسفارة والقنصلية والمركز الثقافي لدولة في دولة أخرى كلها أشكال من الاعتراف المتبادل بين الدول، وسحب الاعتراف شكل من العقوبة أو التعبير عن إن الخلاف قد وصل حداً لم يعد يسمح بالاعتراف. يضاف إلى ذلك بأن الاعتراف بين الدول يعني الاعتراف بسيادتها على أرضها وثرواتها وحرية اتخاذ قراراتها بما لا يناقض مبدأ القانون الدولي. ما الذي يحول دون أن يكون الاعتراف حالة عامة تشيع السلم العالمي والأهلي وتنشر أخلاق التسامح بين الأمم والشعوب وداخل المجتمع نفسه؟

دعوني أشير إلى نقطة خطيرة ألا وهي الاعتراف الشكلي الذي يفتقد إلى قيم الاعتراف الحقيقي.

فإسرائيل مثلاً سعت في أوسلو على الحصول من منظمة التحرير على الاعتراف في مقابل اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، ليصار في نهاية الأمر حل القضية الفلسطينية تأسيساً على هذا الاعتراف المتبادل. لكن إسرائيل التي تعترف لغوياً بضرورة قيام دولة فلسطينية تقوم عملياً بكل ما من شأنه القضاء على أية إمكانية لقيام هذه الدولة.

وقِس على ذلك إيران، فإنها شكلياً تعترف بلبنان واليمن وسوريا والعراق وبسيادة هذه الدول على أراضيها لكنها عملياً لا تعترف بذلك عبر صناعة ميليشيات محلية ذات ولاء لإيران، وعبر التدخل المباشر بشؤون هذه البلاد.

وعلى مستوى الدول ذات الحضور القوي في وسم حالة العالم فإنها تنوس بين الاعتراف الشكلي والتدخل العملي في شؤون الدول التي تعترف بها شكلياً. وبالتالي إن القوة السالبة للحق هي قوة سالبة للاعتراف. لا يمكن أن يكون هناك اعتراف على مستوى الكوكب دون الاعتراف بتعدد الثقافات وحريتها في التعبير عن ذاتها، ولهذا فإن أي نزعة عنصرية مغلفة بالإحساس بالتفوق تحول دون شيوع الاعتراف كحالة تسامح.

وتزداد أهمية الاعتراف داخل المجتمع نفسه بين أفراده وجماعاته. فالسلطة التي لا تعترف بأنها تحكم مواطنين أحراراً هي سلطة تدمر الاعتراف بوصفه الشرط المهم للتعايش. لا يمكن لسلطة أن تُمارس سياسة تمثيل المجتمع إن لم تحز على اعتراف المجتمع. وما كان يمكن لانفجار بعض المجتمعات أن يتم لو كان هناك اعتراف متبادل بين السلطة والمجتمع.

ومن الأخطار التي تهدد الحياة كلها خطر حمل الناس بالقوة من قبل فئة أيديولوجية متعصبة مسلحة على الاعتراف بها. وهذه ظاهرة قد تفشت في الآونة الأخيرة في بلاد عربية كثيرة. فحزب الله اللبناني مثلاً يفرض على الدولة في لبنان الاعتراف بسلطته على أكثر من ثلث لبنان وعلى قرار السلطة في البلد، وبالمقابل فهو لا يعترف بسيادة الدولة وحقها على احتكار القوة العسكرية، ولهذا فهو يمتلك جيشاً خاصاً به يفوق بقوته قوة الجيش اللبناني، ووصل به الأمر لإرساله إلى خارج حدود لبنان دون أي اكتراث بسلطة الدولة اللبنانية.

وقس على ذلك حال الحوثيين في اليمن، وحال داعش ومثيلاتها في سوريا والعراق وبلدان أخرى، وحال الميليشيات العراقية التي حالت حتى الآن دون قيام الدولة في العراق. خطر هذه الميليشيات قائم في أنها لا تعترف بغيرها عملياً حتى ولو اعترف بعضها شكلياً بالآخر.

وعندي إن الخطر المحدق في حضارة القرن الحادي والعشرين إنما يكمن في عملية تحطيم قوة الاعتراف، الاعتراف بوصفه مبدأ العيش المشترك والتسامح كما أشرنا.

Email