ستيف جوبز والفلافل

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما مات ستيف جوبز الذي غير وجه الأرض بتفاحته المقضومة، وأحالها جنة إلكترونية تمثلت في جهاز الماكنتوش وأحفاده وتطبيقاته المتنوعة التي خدمت البشرية وأسهمت في تطورها على أكثر من صعيد، جاءني صبيحة ذاك اليوم صديقي المدمن على الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية، وأخبرني بحزن شديد واندهاش كبير: هل تعلم أن مخترع الآيفون قد مات ليلة أمس؟ وهو من أصل عربي! فاجأني صديقي أنه لم يسمع عن المخترع إلا عند مماته وهو المتيّم بمنتجاته الذكية.

وسألني سؤاله الافتراضي الذكي كهاتفه الذي يحمله: لو بقي ستيف جوبز في بلده الأصلي هل كان سيخترع ما اخترعه؟ واستدرك متهكّماً، حتماً أنه سيكون بائعاً مبدعاً للفلافل والحمص والفول في إحدى الأحياء الشعبية في بلدته، أو أقصى ما يمكن يصل إليه أن يكون صاحب سلسلة مطاعم للحمص ومشتقّاته. ولم يسمح لي صديقي بأن أجيب أو أشارك الرأي، واستطرد في افتراضاته وسلسلة تداعياتها وقال: إنها الجينات العربية التي تقوم على التحدي والإبداع والابتكار، ولكن البيئة هي الأهم وهي من تخذل أبناءها أو تسعفهم ليحققوا ما لا يتوقعونه.

وأشهر هاتفه الذكي المَحمُول من غمده الجلدي على جنبه وبدأ يطقطق عليه باحثاً عن قائمة العلماء العرب الذين ولدوا أو ترعرعوا في المهجر، فوجد أنهم كثر وقد أسهموا في تطوير البشرية في أكثر من مجال، وكانت هذه القائمة قد نشرت في سياق دراسة تساند راي المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في قولها إن استقبال المهاجرين السوريين المتدفقين إلى ألمانيا فرصة وثروة إنسانية لن تتكرر ويجب اقتناصها بتوطينهم والاستثمار فيهم وبالأجيال المقبلة منهم.

هكذا إذاً وبتقدير صديقي الذكي أنه يجب أن تهاجر لتكون مخترعاً أو ابق في بلدك العربي لتكون بائع فلافل ومحترفاً في أقصى الحالات، ولا خيار غيرهما. أما أنا يا صديقي فمع قرص الفلافل ظالماً أو مظلوماً بحشوة أو بدونها، فهي أكلتي الغنية ببروتيناتها المفضلة.

وهي الرخيصة بتكلفتها نأكلها سريعة صباحاً وظهراً ومساء، ودودة إذ تتقبل جميع أنواع التوابل والخضروات بل والمايونيز والطحينة والمخللات وحتى الأجبان واللبنة يرافقها دائما كأس الشاي المنعنع المحلّى، هي دلوعة الموائد والعزائم الخفيفة ومقبلاتها بوضعها في سندويشات القضمة الواحدة.

بل هي، كما أولاد عمومتها من الحمص والفول، جوهر الهوية والثقافة والتراث العربي الأصيل التي تحاول إسرائيل جاهدة أن تستولي على وصفاته بعد أن استولت على المطبخ ومعداته، كما وسبق وأن استولت على تشكيلات التطريز العربي الفلسطيني الذي ترتديه مضيفات طيران «العال» الإسرائيلي حيث يقدمن الفلافل والحمص كمقبلات للمسافرين تعبيرا عن كرم الضيافة في الأجواء.

دافعت أمام صديقي المتهكم على الفلافل ومستقبل بائعيه وأهميته في حياتنا ونشأتنا، إذ يعني لي الكثير من ألفة العائلة كل صباح وخصوصاً أيام الجمعة والعطل الرسمية، واستذكرت دعوة الفتيات على وجبه سريعة ندعي فيها أننا من أنصار الهوية والمأكولات الشعبية البسيطة محافظين على تراثنا مخبئين وراء ذلك حرجنا وعجزنا المالي وعدم قدرتنا على دعوتهن لأكل المنسف أو المسخّن البلدي في المطاعم الفاخرة المقابلة، وعلى الرغم من أن المنسف والمسخن هما أكلتان شعبيتان بامتياز، ولكن ما بالجيب حيلة ولا بالمحفظة غير ليرة. فأنا ممتن للفلافل، إنها قصة متكاملة في غير اتجاه وقد أصبحت عابرة للقارات. فكما الأتراك غزوا ألمانيا بالشاورما، فالآن السوريون يتربعون على عرش الفلافل.

وغزلي بالفلافل وشجونه وأولاد عمومته والألفة بينهم لا يتعارض مع ستيف جوبز واختراعه، بل وأجزم دون أن أدري أو أتحقق أن أحد أفضل الأكلات الشرقية لدى ستيف جوبز هي الفلافل، وإن تخلى والده عنه في صغره وتركه للريح والهجرة الداخلية في أميركا، وأزعم أنه لم يتخل عن فلافل أصوله، وأن ثمة ما يربطه بأصله الذي لا يأبه به بقدر ما يأبه بعلمه وعمله ودأبه الذي غير وجه العالم.

مرة أخرى حمل صديقي هاتفه الذكي ليبحث هذه المرة عن كلمة «فلافل»، ففوجئنا أن الكلمة ذات رونق وطعم خاص إذ شملت نتائج البحث أغاني وكليبات ومقالات ونزاعات وصور واختراعات وحملات ترويجية سياحية ووصفات صحية لأكلات شافية وعافية ومسابقات وأرقاماً قياسية عالمية وحتى قصائد من شعر ونثر، ودراسات علمية وغيرها، صمت صديقي ولمعت في ذهنه فكرة أن يجمع بين الغرب والشرق بأن يهاجر ليستثمر في قرص الفلافل في بلاد الفرنجة وبابنه في التعليم الجيد والفرص العلمية والابتكارية المتاحة والعدالة الاجتماعية، طامحاً أن يخدم هو وابنه المنتظر البشرية.

أما أنا فدعوت له بالتوفيق كما دعوت لأبو إسماعيل بياع الفلافل الذي اتخذ من شباك منزله المشرع على الشارع الرئيسي نافذة صغيرة لبيع الفلافل والفول والحمص لأهل الحي الشعبي الفقير، مات أبو إسماعيل وما زال الشباك مفتوحا يعتاش منه إسماعيل وأولاده الذي هاجر أحدهم تهريباً إلى مخيمات اللجوء في المجر، وما زالت أخباره مفقودة حتى يومنا هذا.

Email