المُتَمَترِس بَرَأيِه

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنّا صغاراً وتعلّمنا أن النار حارقة إن اقتربنا، ودافئة إن ابتعدنا، تقينا برد الشتاء، وتعلّمنا أن «أعقل الناس أعذرهم للناس»، و«أن النفوس الكبيرة وحدها تعرف كيف تسامح»، وغالباً ما علمتنا أمهاتنا أن الاعتدال هو أن نقف على مسافة وسطى بين نار المدفأة الحارقة، وبرودة الجدار القارص الأصم، فلا احترقنا بلظاها، ولا متنا برداً.

وهي فطرة الأم إذ تجتهد بأن يكبر ولدها عاقلاً غير متهور، لأن ثمة إخوة وأخوات له قادمين، فلا وقت للعبث والطيش، فالثاني سيأتي، والثالث والرابع وأكثر. ويكبر الجميع بين الدفء والبرد. ويتشرب الولد سرّ أبيه، وتستنشق البنت قِيَم أمّها، عائلات تتمدد ومجتمعات تنسج تناغمها على مائدة الطعام ومجالسها في الحقل وفي السوق، يتناقلون هموم الناس بالكلمة والوجه والتعبير والوضوح. مجتمعات نسجت فيها الأعياد، فرح الحياة بالحوار والتواصل بلا ضغينة أو إقصاء.

فيكون أساس التمييز بين الخير والشر، إنسانياً بلا عرقية أو فئوية أو مذهبية، والرأي بالآخر تشكله معطيات إنسانية بالدرجة الأولى. جيل نضج وأزهرت فيه قيم الاعتدال القائمة على احترام الآخر وحريته، أياً كان. فالقيمة راسخة، والخير ثابت، والشر واضح ومتفق عليه، لا يندس أو يتماهى بين الناس، بيئة حصينة ضد التطرف والغلو، لأن القيمة ينسجها السلوك، فتغزله فينا.

أما اليوم، وبعد نحو عشرين عاماً تقريباً على انتشار الإنترنت، وهذا الانفجار المعرفي الذي يعادل في فائدته اختراع البنسلين، ويناقض اختراع القنبلة الذرية، فقد زاحمت شبكة الإنترنت، دور الأم والأب والمُعلم، وفُتح فضاء على مصراعيه لا يمكن التنبؤ به، فيه الحقيقة والحياة، كما فيه الخداع والموت، فيه الخير المطلق، كما فيه الشر النائم والمُبَيّت.

فضاء فسيح مليء بالاتهامات الساذجة والمتعصبة حول القضايا الكبيرة والمصيرية، اتهامات جزافية، وأخرى مضادة مفتوحة بالكلمة والصورة والفيديو، وأجواء من التأثير والثأر، وتشكيل ذهنيات عصبية تعصبية.

ففي عالم الاتصال السريع، لا تريث ولا بحث أو قراءة، شباب يستعذبون صراعات الرأي الدموية والإقصائية والتكفيرية، فمن خالف الرأي يستحق الموت أو قطع اللسان وفقأ العينين، أو جميعها مجتمعة. تطبيقات إلكترونية جمعت البشر من كل أقطار العالم، واحتضنت المجانين البرّيين بوحوشهم الصغيرة، بعد أن تغذت على الكراهية ونبذ الآخر..

وتمجيد «الأمير الجديد أو صاحب الولاية المنتظر» المهووس المتعصب. وأتاح الإنترنت وتطبيقاته عبر الهواتف الذكية، سهولة الاتصال والتواصل المقنّع، ما أدى إلى إدراك مُحَوْصل، يدفع صاحبه بأن يعيش الهوس وينبش في معتنقه، معزولاً عن محيطه الواقعي والإنساني.

تكبر حول المهووس الحفرة، ويغرق في سواد الفكرة، ويخرج منها مجنوناً هائجاً عنيفاً، لا يرى إلاّ إبادة من خالفه الرأي والمبدأ والمعتقد، وحتى الاهتمام. فهو الأصل النقي، والآخرون حشائش ضارة يجب قلعها، ودمه من ذهب لا يصدأ، والآخرون من تراب يتعفن. ويتحصن نقيضي الرأي وراء متاريس التشدد والتخلف والجهل..

فيقذف المتشدد عبر وسائل الاتصال ومنابرها المفتوحة، بكل ما يهدم الحوار والتفاعل وتقبل الآخر. وتنتشر أجواء التعصّب والتعصّب المضاد للدين والقطرية والعرقية والإثنية واللون، وحتى اللهجة، وهكذا تُفتحُ نيران إلكترونية صديقة عن قصد ودون رحمة، وعبر الاقتداء بنماذج وشخصيات مجنونة، تلهب النقاش المتطرف الدموي في مواقع التواصل الاجتماعي، أو حتى عبر الشاشات التلفزيونية المتطرفة.

وفي ظل تراجع الدور الإرشادي المباشر والإنساني للأم والأب والمعلم في المجتمع، وكسل المجتمعات، وعزوف الشباب عن القراءة بحثاً عن الحقيقة العلمية، وتعزيز قدرات التمييز والاعتدال والحوار، وفي عتمة الزوايا المظلمة على شبكات التواصل والإنترنت، بما تتيحه من حرّية التقمّص والتخفّي، يغيب الحوار الهادف عند الجاهل..

فيتوالد المتطرفون كالفطر السام في الشتاء البارد، فلا اعتدال ولا حوار في غياب تلك المنطقة الوسطى، التي يحيا بها بنو البشر دافئين بين النار وبرد الجدار. ويموج المتعصب في أفكاره المجنونة، وينكر على غيره الحق في الحياة والحوار، وتنفجر عقيدة الكراهية، ويتحوصل الكاره وينغلق، ويبدأ، ولو على مستوى فردي، البحث عن وسيلة عملية لإقصاء هذا الضد عن الحياة.

هنا، تتطور المسألة لدى «المجنون»، فيغدو موت الآخرين إحياء له ولعقيدته، ويظنها زينة العقل والتعقل. فيقتل بدم بارد، وبأكثر من طعنة، وبغير سلاح، ويصرخ بمعتقداته، ويرقص حولها انتقاماً، ولا يندم المتطرف المجنون على فعلته في قاعة المحكمة، أو حتى تحت المقصلة، فيصرخ بأعلى صوته بشعارات الكراهية والموت للآخرين، والمجد لمعتقده..

التطرف يُغيّب العقل، ويُعمي القلب، ويُفسد الروح، فيكون الجسد رخيصاً لدى صاحبه، وقد يكون الرخيص بطلاً وقديساً لدى مجنون جاهل آخر، قابع في زوايا العتمة كالخفاش، خلف شاشة هاتفه الذكي يتَحَوْصل كما تحَوْصل غيره، مهرولاً نحو النار والجدار الأصم، ظانّاً أنها الحياة الطبيعية الدافئة لبني البشر، يتمترس خلف تطرفه، ويقذف رأيه المستميت،..

ويدعو على الطرف الآخر بالموت والجحيم وبؤس المصير. أمام هذا التحدي في العقلية التطرفية التي تنبت في العتمة، وتغذيها قنوات التواصل الاجتماعي، فلا بد من اعتماد الحوار في كل مفاصل العلاقات البشرية بالانفتاح، وبالتوازي مع الوعي الثقافي والعلمي والإنساني..

والتأكيد على أنهم ليسوا الوحيدين على هذا الكوكب الملموس والواقعي أو الافتراضي، لا بد من اعتماد الحوار بلا نهاية، وبلا نقاط آخر السطر، حتى ينحسر التطرف والفكر التكفيري الإقصائي، فبالحوار والمعرفة والعلم، تنمو المجتمعات وتتحضر.

 

Email