آزنيف والحياة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في عام 1948، في إحدى قرى الساحل الفلسطيني المتاخمة لمدينة يافا، فقدت آزنيف الأرمنية الأصل، وهي في الثلاثينيات من عمرها، زوجها الفلسطيني، واثنين من أولادها، الأول نزفاً والآخر جوعاً ومَرَضاً. ولم يبقَ لديها في هذه الفوضى والموت السهل، إلا حزنها وجنينها في شهره الثالث.

على طريق هجرتها مشياً على الأقدام باتجاه الجنوب الفلسطيني، اكتمل الوجع الكبير، فأسقطت ما تبقى من الحياة من أحشائها. وواصلت وحيدة نازفة خفيفة بين جموع الموجوعين والمهاجرين والمظلومين، تميل حيثما يميلون كالنوارس يؤرجحها الموج.

فائضة الموت ذابلة الحياة أنهكتها آزنيف المسافات البعيدة، فمن أرمينيا المدمرة، إلى يافا العارية المكشوفة على بحرها وعصابات الاحتلال الإسرائيلي..

قاوَمَت وجع المسافات، برفقة عشرات الألوف ممن حاولوا الحياة في أماكنهم، فخانتهم الشوارع المفتوحة للغزاة، وخذلتهم أمعاؤهم وأجسادهم، قطعت آزنيف المنهكة، المسافة بين الموت والجوع.. حافية القدمين، بشعرها الأشقر المغبر المجبول برطوبة البحر.. هذا البحر اللعين، الذي يجتر التاريخ على الساحل الفلسطيني، ويهزأ من مدن احترقت فحرقت من فيها.

وصلت آزنيف العطشى مع ألوف المنهكين الجوعى إلى غزة، وقد غدت المدينة الساحلية خاصرة الألم الإنساني الكبير، ودرباً جديداً لجلجلة القرن العشرين. فالذين ماتوا ذهبوا واستراحوا، أما الأحياء من أقاربهم، يجترون الألم والحزن والوجع.

سكنت آزنيف الشقراء في أحد المخيمات الفلسطينية في غزة، واستأنفت حياتها، رافضة الزواج. استعانت على شقاء حياتها بتربية الدجاج في باحة بيتها الضيق، تأكل من لحمها وبيضها. كانت تذهب إلى بائع الخضراوات البعيد، وتطلب منه التالف من الخضار والفواكه، بحجة أنها تطعم طيورها، فتتقاسم أكلها، فتأكل الصالح من التالف، لتبقي نفسها ودجاجاتها في دورة الحياة المرّة.

فرحة بدجاجاتها التي تبيض وتتكاثر وتبيض، وتمعنت آزنيف الدجاجات ومن خلفها فراخها، وتذكرت فناء منزلها العريق في قريتها، وأدركت لو أن المهاجر تمتع بمهارة الاختباء والتخفي والبقاء كما الدجاج، لما مات في طريق الهجرة بحثاً عن النجاة.

كانت محاطة بالجيران الفقراء المعدمين، وأقربهم جارها محمود »المجدلاني« الثلاثيني المعيل الوحيد لزوجته وأولاده الثلاثة، يذهب كل مساء ويصطاد السمك من بحر غزة، وإن عاد بلا رزق، لعن البحر الغدار. ولأكثر من مرة، اقترحت آزنيف على زوجته أن يربي الدجاج، فهو أضمن وأقل خطورة وتكلفة. وفيه اللحم والبيض ما يحتاجه الأطفال في سن أولادها، ولكن الزوج لا يحب إلا البحر ومفاجآته.

أغلق الاحتلال بحر غزة، ولم يعد البحر غداراً فحسب، بل خائناً، فقد تواطأ مع الاحتلال ليصير أكثر لؤماً وحصاراً وموتاً. لأيام والأب يذهب صباحاً أمام أبنائه حاملاً عدة الصيد، ليرعى هيبة المعيل الذي يشقى. ولكن البحر الفسيح مغلق، والجوع يحوم كنسر الموتى.

وذات مساء، وهو على سطح منزله المطل على فناء منزل العجوز آزنيف، أدهشته الحياة في ساحتها الصغيرة الملأى بالدجاجات وفراخها. تأملها طويلاً كقطع لحم متحركة، حيث صرخت أمعاء أولاده الخاوية في عقله، وقال دجاجة واحدة لا تؤثر، فقرر أن يصيد الدجاج بدلاً من السمك. وألقى حبلاً طويلاً وقد عقده في نهايته بدائرة واسعة كمشنقة، وشده حول رجل أول دجاجة وطأته.

بعد يومين، أرسلت آزنيف العجوز طبخة »المقلوبة« بالدجاج والباذنجان إلى جارتها، لأنها خبرت أن الجوع أشد كفراً من السرقة، ونزعاً لكرامة رجل يعيل أفواهاً جف ريقها وتشققت حلوقها. تفاجأ رب الأسرة، وأدرك أن آزنيف رأت فعلته، وأصابه القهر، لا سيّما أنه كان يفكر بصيد آخر ذاك المساء. وما كانت آزنيف تقصد أن تصيبه بالقهر، بقدر ما أن تشاركه مصيبة جوعه..

وقد رأت في أبنائه أبناءها، وحتى الذي لم تكتب له الحياة. لم يذق طعم النوم وهو يجتر كيف رأته وعرفت بفعلته، وفي صباح اليوم التالي، قرّر أن يضع حداً لهذا الجوع الكافر، وأن يتسلل الحدود الملَغّمة، ليعمل في مدينة أجداده المُحَرّمة عليه.

شارك فكرته اثنين من أبناء المخيم البائسين، أحدهم أعزب يعيل إخوته، والآخر فقير معدم ينوي الزواج بحبيبته. فلم لا، فكثير من نجح في جمع المال من خلال العمل خفية في مزارع ومصانع الأعداء، وحتى في بناء المستوطنات في تلك المدينة.

في منتصف الليل البارد، أعلنت إسرائيل القبض على ثلاثة ممن تسميهم »مخربين«، في محاولة للتسلل لتخريب وتدمير مدينة مجدل- عسقلان الآمنة الوادعة، فقتل الجيش الإسرائيلي اثنين منهم، وأَسَر الثالث حياً يرزق دون إصابات. وبحسب البطاقات التعريفية، فهو محمود جار آزنيف الأرمنية.

تجمع أهل المخيم ما بين مُقدم للعزاء للشهداء الأبرار، ومفتخر بالبطل الأسير الذي ترك أطفاله من أجل وطنه وشَعْبه، وعلت الزغاريد، ووزع المعزون الحلوى على أنفسهم. وكثرت الأقاويل والحكايا حول البطولة الخارقة لثلاثتهم، وكيف أنهم قاوموا حتى الرصاصة الأخيرة في جعبتهم، وكيف أن الملائكة حملتهم فوق الألغام، رافقتهم وفراشات الليل وغيرها من المعجزات، إلا أن أجهزة المراقبة الحديثة كانت لهم بالمرصاد.

بعد عام في الأسْر، عاد محمود، ووجد في باحة منزله عشرات الدجاجات وأفراخها، وسأل عن آزنيف العجوز، فأخبروه أنها توفيت قبل يومين، وأوصت ببيتها بدجاجاتها إلى أولاده. وحيداً على سطح منزله، الجار أمسك بالحبل المشنقة، فبكى »البطل«.

ونزل إلى المهنئين مجففاً دموعه، وترَبّع على عتبة منزله ومن حوله أولاده، وبدأ يقص تفاصيل ملحمته البطولية، واصفاً الملائكة والفراشات، وحتى العناكب وطيور البوم، التي رافقته وأصدقاءه في معركته الأسطورية على الحدود الاحتلالية، صفق له الحضور، وضاعفت له جمعية شؤون الأسرى مخصصاته الشهرية مكافأة له، وما زالت عقدة الحبل على سطح المنزل، وهو الوحيد الذي يراها وتراه.

 

Email