صَدِيقُنَا «السّلْحفَاتِي»

ت + ت - الحجم الطبيعي

جاء صديقنا المتضخم الضخم، كعادته بطيئاً متأخراً عن موعده، أطلّ علينا من بعيد، يلوكُ علكته، وتتحرك بلوكته زوائد رقبته التي ترَهّلَت أطرافها أعلى صدره، وكأنها أوداج فيل البحر العجوز..

جاء وسيجارته بين شفتيه، ينفثُ دخانها ويشيح بوجهه مُغمضَاً عينيه، فالدخان المتصاعد أحاط بوجهه كضباب غابات السافانا. اقترب صديقي نحونا وهو يمشي الهويْنَا، ولا يبدي أي ندم أو ارتباك لتأخّره عن موعده ساعة كاملة... فما زال يقترب ببطء نحونا، ونضحك من قهرنا، ونزمجر من برودة أعصابه، وكأنه سلحفاة تتمايل لا تأبه بالوقت ولا بالمسافة.

وصل لاهثاً، وأوعز لنا بنَفَسِه العميق، وهو يُلقي بجسمه على أريكته، ويتنهّد بألا نلومه على تأخيره وعدم التزامه بالموعد، فهو هكذا، كما يقول، خُلِقَ بطيئاً رخواً، يَحْيَا الحياة كما هي، وكيفما اتفق... كسُول يرى فيه كسَلِه إفادة للصحة، وتوفيراً للطاقة، وإطالة للعمر. ألقى التّحيّة وهو يزْفر هواء رئتيه متصبّبَاً عَرَقه، يطلب الماء البارد من الجرسون، ونظراته تلومنا على الجهد غير العادي الذي بذله بتجشم عناء القدوم إلى المقهى.

لم أتمالك نفسي، وقلت له: قليل من الحركة تأتيك ببركة الصحة والعمر الطويل، واحترام الوقت والمواعيد، لا يمكن أن يتأتى إذا لم نحترم عمرنا ونقدر المسافات. وبَقَدر ما كنت أحترق من الداخل، كان بارداً هادئاً مبتسماً مرتخياً مترامياً بأطرافه على أريكته، ينفث بقايا دخانه في وجوهنا، ويبتسم بثقة العارف، ويلومنا على اختيارنا المقهى، وليس منزله الذي اقترحه علينا، حيث لا عناء التنقل.

صرخت في وجهه، وقلت: اهتم بصحتك يا رجل، وانشط كي تبقى حيّاً يقظاً، وتعيش عمرك أطول بالصحة والعافية!، نظر إليّ وتأمّلني، وألقى بهاتفه الذكي على الطاولة..

وشرب ما تبقى من الماء البارد في كأسه، وأشعل سيجارته الثانية من نار الأولى، وقهقه بأعلى صوته، وقال ساخراً: إن كسلي هو طريقي الطبيعي لإطالة العمر والاستمتاع بالحياة إلى أقصاها، لأننا بني البشر، كباقي المخلوقات، لم نولد لنركض أو نلهث ونربك قلوبنا ورئاتنا، قالها ورفع حاجبيه إلى الأعلى لوهلة، وكأنها نقطة نهاية السطر، لحكمة قالها عالم في الصحة العامة والأنثربولوجيا والنشوء والارتقاء.

أصابني الفضول بأن له وجهة نظر، وهذا ما خفف من غضبي عليه قليلاً، سألته، كيف ذلك يا »فحل« زمانك؟، فأشار لي بأمثلة من الكائنات والمخلوقات طويلة العمر وقصيرة العمر، مع قراءة مقارنة لعامل الحركة والسرعة في حياة تلك المخلوقات، وضرب مثلاً بالببغاوات الكسولة التي تعيش 80 عاماً.

وهي مخلوقات لا تحب بذل الطيران للمسافات البعيدة، السلحفاة التي قد يبلغ عمرها مداه ليصل 180 عاماً، والفيل كذلك، والحيتان القطبية البطيئة، التي قد يفوق عمر إحداها 200 عام، وبعض أنواع المحار الكسول القابع، قليل الحركة في زنزانة قشرته، يصل عمره إلى 500 عام..

وبالمقابل، استشهد ببعض الحيوانات ذات السرعة والقوة الفائقة، وعمرها القصير، مثل الصقر والحصان والذئب والفهد، وهي أقوى الحيوانات وأسرعها، ولكنها تعيش قصيراً، وأضاف، حتى الفراشة الرشيقة سريعة الحركة، تنتهي بسرعة، في حين أن يرقتها البطيئة، تعيش أطول عمراً منها. تمدد صديقنا اللاهث أكثر على أريكته، أخذ نفساً جديداً من سيجارته، وختم حكمته ضاحكاً:

هي معادلة نسبية عكسية بين قلة الحركة وطول العمر...الخلايا تستهلك نفسها، بقدر حجم استخدامها، لذلك، تجد خلايا جسمي تتمدد وتتكاثر، وأنا سعيد بذلك، كرّرَها على مسامعي عدة مرات، وذكرني بأنه ببغاء طويلة اللسان، كما ضرب مثاله، وإن كنت أشك أن يبلغ الثمانين من عمره في حالته هذه، فلم يأخذ من الببغاء إلا سلاطة لسانه.

أدهشني صديقي »مترامي الأطراف«، بمنطقه البيولوجي الفضفاض، الذي برر به كَسَله وخَمَله، وكيف أن حياته تتمحور فقط على طول العمر بأقل الجهد. قد يكون في منطقه وجهة نظر، إلا أنه قد تماهى مع باقي الحيوانات، وليس جميعها، وإنما الكسولة منها. ولم يعد بالنسبة لي إلا كتلة من اللحم والورم والشحم، حتى إن ذكاءه قد تفتق غباء بمنطقه العجيب..

ونظريته حول النسبية العكسية بتوفير الطاقة، وتحقيق العمر الفارغ المديد. تخيّلت في عمره الطويل، بركة السمنة ولعنة الكسل، وأنه قريباً في قبره يرقد، وقد ذاب شحْمُه وتآكل لحمُه، وغدا مجرد هيكل عظمي لفيل ضخم عاش ومات أجوف، أو سلحفاة كسولة، لم يبق منها إلى صدفتها، بعد أن عاشت حياتها بالطول وبالعرض، في البر والبحر.

ومن جهتي، أخبرته عن العظماء الذين عاشوا وماتوا ولم يتضخموا، وأنهم قيّموا حياتهم وعشقوها، فضاعفوا أعمارهم بما أنجزوه للبشرية من فكر وعلم وأدب وفلسفة، وليس بمقدار الكَسَل والشّحْم والتضخم، كبالون فارغة. وكثيرٌ من هؤلاء العظماء من تشبثوا بالحياة، وأصابهم قلق الموت خوفاً، من لا يكفيهم الوقت بأن يكملوا مشروعهم الإبداعي والإنساني والعلمي.

فتحكموا في السنين، وحاصروا أزمنتهم بأنهم استثمروا في عقولهم، وليس في بطونهم. صديقنا المُتَطاول والشاطح في أفكاره، سيموت عاجلاً أم آجلاً، فارغاً منسياً، لا يذكره أحد، قد يحدث أن يعيش أطول مني ومنك..

لكن ماذا سيتبقى من أثره، إذ عاش كدب قطبي شتوي، مهمته فقط أن يأكل ويخزن شحمه لسباته الشتوي!!!، العمر يا صديقي المترهل، ليس بالسّنين، ولا بالكسل السّمين، وإنما بالعقل والفكر وحده يسعد الإنسان، هذا ما يميّزنا نحن بني البشر عن المخلوقات، طال عمرها أو قَصُر »فما أطالَ النّومُ عمراً ولا قَصَّرَ في الأعْمَار طول السّهَر«. كما قال عمر الخيام.

 

Email