النصف الثّالِث

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحقيقة مُمِلّة وروتينية وكسولة، وتدعو إلى الخمول، وغالباً ما تكون مستهلكة معروفة النتائج، ومتناقلة بين عامة الناس، بسيطة غير قابلة للنقاش، كجدول الضرب في الحساب نتوارثه ونورّثه، وأما الغائب فيها شرس ومخالف ونشط وعميق وجنوني، مثل شبح نرى ظله ولا نراه، فنصدّق البصيرة في العتمة، ونغيّب البصر في الضوء.

وبعضنا يكتفي بالحقيقة المملة ولا يسأل، فيُؤْثِرُ الكَسَل الذّهني في العقل والعاطفي بالقلب، وبعضنا الآخر من يسأل ويخشى الجواب، فتهزمه روتينية التفكير ورهبة الحياة والتغيير، وأما نصفنا الثالث، فيسأل ويرتحل بعقله ووجدانه من سؤال إلى استفهام إلى تَعجُّب كبير، إلى قلق، كريشة تموج بها الريح، ويلقي حجراً وأكثر في المياه الراكدة، فيحركها، فتتوالى الأمواج وتتقاطع، فتُحدِث الفرق وتبعث الحياة.

حياتنا مليئة بالحقائق والحركة وتناقضاتها، فكل شيء متحرك في هذا الكون، والثابت الوحيد فيه، هو الحركة، بحسب ما قال أينشتاين، والحقائق أيضاً متحركة، ما دام أن للحقيقة أبعاداً أخرى خفيّة، قد تدعمها الحقيقة ذاتها أو تناقضها.

وهي كما الشكل المطلق للدائرة خالية الزوايا، متشابهة المنحنى مستقرة المسار، إلى أن يلتقي طرفاها في نقطة الكمال، فتتشابه وتتساوى كل النقاط، حينها، لا نعرف البداية ولا النهاية، فالحقيقة هنا متشابهة إلى حد الملل، ولكن حُكم الإنسان وتقديراته وانفعالاته وقياساته وأحكامه وأزمنته وتوقيتاته، تولّد عدداً لا متناهي من الدوائر المتقاطعة..

ومن الأشكال المتعددة، وبنتائج لا يمكن حصرها، وهكذا هي الحياة، ليست مجرد ما وصفه الصينيون باليينغ واليانغ في فلسفتهم القديمة، حول أن الكون بني على فكرة السالب والموجب، والازدواجية الثنائية، وأن كل ما فيه يخضع إلى النصف والنصف الثاني المضاد فقط، لتكتمل الصورة من حولنا، فلا نصف ثالث.

وأرى في هذه الفلسفة أداة للتحكم بمحيط الإنسان ومساعدته على تفسيراته المحددة المادية والمعنوية، وحتى الوجودية لهذا المحيط، وقد يحدث أن يكون لها بعد علمي دقيق، إلا أن ثمة نصفاً ثالثاً في الدائرة نفسها غير مرئي، إلا لمن تجرأ واجتهد على المسلّمَات، ونظر إلى محركات دائرة حياته، على أنها ليست شكلاً مطلقاً وموجة دائرية واحدة يتيمة في الماء، أو مجرد أنها مكوّنة من نصفين لا ثالث لهما. أما الجريء المبتكر، فيُطلق لعقله وإحساسه وجسده العنان، وإن تعارضت مع الحقائق المطلقة المسلّم بها.

فالألم الإنساني واليأس والعشق والثأر والغضب والخيانة والوفاء والضعف والخوف والفرح والقوة والكرامة والمهانة والتردد والتهور، جميعها لا يمكن أن نراها بمفهوم الدائرة المطلقة المتشابهة، والنصفين المتقابلين فقط، وإنما يجب أن نراها على شكل مجموعة مركبة من الدوائر المتقاطعة، التي تولد أحكاماً وحقائق وردود فعل متباينة في ما بين بني البشر. وبقدر ما دخل أحدهم في منطقة النصف الثالث في الحياة، بقدر ما أدرك الخفي فيها، فالحقيقة الناتجة لن تكون رتيبة ومستهلكة..

كما هي في النصف الأول والثاني. فدائماً ثمة نصف ثالث يمنح ضيوفه القلقين، القدرة على خلق زوايا جديدة لرؤية الحقيقة وإدراكها، حيث يكون منبعها خليط بين الحلم والخيال، بين الشبح وظله، بين العتمة والنور، وبين شغف البداية وقلق النهاية، وهي منطقة وسطى، لا يلامسها إلا القلة من البشر.

وهي خليط تختلف كيميائياته العاطفية والحسية والروحية والفكرية من شخص لآخر، وهذا هو سرها وتجددها واستثنائيتها. دائماً، ثمة نصف ما غامض مختبئ فينا، فإما أن نوقظه لندرك أعمق ولنعرف أكثر، أو نقبل بالتفسير الأفقي المتفق عليه، فنريح أدمغتنا، ونقنع بحواسنا كما عرفتنا وعرفناها. والتاريخ مليء بالأمثلة، حيث الأقلية المُفَكّرة كانت على صواب، وبعضهم من لاقى حتفه موتاً على يد الأغلبية، وأعيد اعتباره من غير أهله بعد عشرات ومئات السنين.

وهاجس التساؤل وجُرْح إجابته، وما بينهما، تقودنا إلى المعرفة، فالنصف الثالث من الحقيقة الشاردة، تدهش مكتشفها قبل غيره، فيدرك أن الحياة ليست مسطحة ومطلقة في شكلها الدائري التقليدي، ودورانها الروتيني حول نفسها، ورتابة يومياتها، فيدور البعض فيها كما الثور الأعمى في الساقية المستديرة، وإنما هي الحياة بالحركة والتأمل والتفكّر في كل أشكال التفاعل الإنساني والفلسفي، وتقاطعاتها الحيوية اللا متناهية.

وحينما نمسك ببعض الحقائق الغائبة والمتناقضة أحياناً، يدرك الطائر الآدمي فينا، أنه كلما حلق بعقله وأسئلته الوجودية أكثر، غرد لحناً جديداً لم ينشده أحد من قبل، ورأى من بعيد، أن فتات الميناء هو جزء من زوايا الشاطئ، وأن فضاء البحر أكبر. فاسأل يا صديقي وتعجب، وغرّد وأنقر في جدار الدائرة المطلقة، لتحدث الفرق، وتضيء عتمة شيء ما في الحقيقة الغائبة، والمعرفة التي يظنونها كاملة. واتبع حدسك، وكن روحاً فضائية وعقلاً بأجنحة تحلق بفكرك وتفكيرك عالياً، وجسداً لا يتوقف عن اكتشاف حواسه وأحاسيسه. فدائماً ثمة ما هو معنوي أكبر من المادي المحسوس، يحررنا من ساقية الحياة ودائرتها المحصورة بين متلازمة الليل والنهار، وثنائية الأشياء من حولنا.

 

Email