استدامة أبو نزيه

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا كانت المعرفة المتكاملة والحديثة قادرة على تحويل الرؤية المؤسسية إلى عمل وإنتاج، فإن القِيَم المؤسسية هي المحرك العاطفي والإنساني والمهني الذي يسهم في استدامة الإبداع وتحمل الصعوبات وتجاوز التحديات بروح الفريق الواحد بين العاملين.

وبالمقابل، فإن تراجع وترَهّل وانهيار هذه القِيم من شأنه أن يقتل الإبداع ويخنق روح المبادرة في مهدها. فالقيمة فينا يعني بالضرورة أننا نسير في نهج وتناغم مثمر ونتخاطب فيما بيننا بلغة النزاهة والانتماء والشفافية والمعرفة والابتكار والانفتاح والتنافس المهني الشريف الذي يحكمه مصلحة العمل طويلة المدى لا مصلحة الفرد الذاتية الضيقة قصيرة الأجل.

فثمة مساحة قِيَميَّة من نوع السهل الممتنع لدى أي فريق عمل كَبُر حجمه أو صَغُر، وهي الفارق في تشكيل الحياة بين تفتّح الزهرة ونضارتها وبين انكماشها وشحوبها إن انقطع ماؤها وأصابها الإهمال والجمود.

قرأت سيرة مصنع نسيج تأسس قبل 60 عاماً اشتهر عنه بيع المنسوجات والأزياء الوطنية في إحدى الدول العربية. كان صاحبه قد بدأ العمل وحيداً على آلة نسيج صنعها بيده بمساعدة زوجته، وآلة أخرى بعد أشهر ليعمل عليها أخوه وزوجته، وتمددت العائلة وتعددت الآلات، وعمّ العمل بروح الفريق الواحد، وامتد صيت المصنع وذاع ليتجاوز حدود القرية، إلى المدينة والبلد.

وبعد 50 عاماً كَبّر المصنع كما هو حال القرية وأصبح مصنع «أبو نزيه وإخوانه» يجمع أكثر من 1300 عامل من أبناء البلد تشكل عائلة أبو نزيه وذريتهما فقط 5%. وعلى مدى هذه السنوات احتضن المصنع أجيالاً تنوعت مهنتها بين أعمال النسيج في المصنع صباحاً والفلاحة وتربية الماشية مساء.

ومؤخراً قبل بضعة سنوات أصبحت الآلات اليدوية تراثاً تقليدياً، إذ لا بد من التحوّل إلى الآلات الحديثة لتلبية موديلات الشباب وإبقاء العوائد والأرباح في أوجها وإبقاء العاملين في وظائفهم في المصنع، غير ذلك، سوف يُصاب المصنع بالكساد والفشل ومآله الفشل والإغلاق إذ لا تغني النزاهة ولا تسمن من جوع.

وبالفعل استدركت إدارة المصنع التحديات الجسيمة، تم شراء آلات حديثة لتلبّي التحوّل الاقتصادي إلى المنسوجات الحديثة ومتطلبات العصر وتوجهات الموضة التي باتت تنتشر وتختفي بسرعة بفعل سرعة التواصل والتأثير والمنافسة عبر قنوات التواصل الاجتماعي واحتدام التسويق الإلكتروني، فلم يعد السروال هو ذاته، فالآن أصبح السروال منخفض الخصر ضيقاً متهتكاً مرقّعَاً، بعد أن كان خصره فوق السرّة فضفاضاً نظيفاً..

وتحوّل الثوب النسائي التقليدي بتطريزاته البهية المتنوعة الأصيلة وخصره المزموم بزناره الأحمر المزركش، إلى فستان رقيق شفيف قصير الطول، زناره منه وفيه منقبض يترك آثاره على خاصرة مرتدياته من النساء. بدأت رحلة التغيير في المصنع وتم استثمار أرباحه بشراء آلاته الحديثة الأتوماتيكية التي تعمل ببرامج الكمبيوتر وتنفّذ أحدث الموديلات والقصات بكل دقة.

لم يعلم أبو نزيه بالتغيير وما حل بمصنعه من تطوير أو تحويل اضطراري على أيدي أبنائه، وإن أحد تسلل إليه وأخبره واشتكى فلن يدرك جَدّنا فقد أصابه الخَرَف وقد بلغ منتصف التسعينات. تظاهر بعض أهل القرية الموظفون القدامى أمام منزل أبو نزيه العجوز، ورفعوا شعارات، «النزاهة يا أبو نزيه»، كان معظم المعتصمون من الموظفين القدامى ممن تقاعدوا ولديهم نوستالجيا التراث والأصالة، كانوا يتكئون على بعضهم، وبعضهم من استجمع قواه واستغنى عن العكّازات لوهلة ولوّحوا بها معلنين رفضهم للتغيير وتطوير المنتجات بشكلها الجديد، إذ إنه لا يشكّل ثقافتهم ..

ولا يمت بصلة إلى تاريخهم الأصيل في المصنع الذين عملوا فيه بكل ولاء ونزاهة. تَعِب المعتصمون القدامى من أصدقاء أبو نزيه وعادوا إلى بيوتهم خائبين، إذ هدهم التعب وخيبة الأمل من عدم التجاوب من الجيل الثالث لأحفاد أبو نزيه.

ما فائدة القيمة إذا كانت تقتلنا وما فعاليتها إذ تجعلنا في أماكننا نرفض التطوير والتعلم والتغيير، وهل القيمة تنحسر وتُختزَل في جمودها وعدم انفتاحها نحو التجديد والتطوير.

إن ما حدث للمصنع وتطويره بما هو حديث يؤكد أن القيمة مطلَقة ممتدة لا يمكن حسرها في زمن أو مكان أو عمل أو مُنْتَج. فالقيمة يمكن أن تكون مُعطّلاً اقتصادياً إن آلت إلى الجمود وهي ذاتها قد تكون محركاً فاعلاً لرأس المال ومتجددة ومستديمة إذا تم توظيفها في خدمة التراث والأصالة، بمعنى أنه يجب أن تكون نزيهاً بما فيه الكفاية أن لا تصنع منتجاً منخفض الخصر بوهيميا، وبالمقابل أن تكون منفتحاً أن تصنع ملابس حديثة تتزاوج مع التراث وبهائه، وهنا تكون الخصوصية في المُنْتَج وهو ما يجعلك قادراً على الاستدامة والتعريف بتراثك بقيمته الأصيلة.

وبالفعل في الأشهر الأخيرة لقد نجح المصنع بإنتاج ملابس عصرية لجميع الأعمار وبموديلات تتناسب مع الموروث التراثي معشٌقة بتطريزات وألوان تراثية انتشرت في جميع أرجاء البلاد وبإقبال كبير من السياح والزائرين. لقد زاوج أولاد أبو نزيه قِيَم الأجداد بقيمة الانفتاح الثقافي المنضبط دون ميوعة أو إسفاف، فاستدام المصنع ودام الابتكار. والله يرحمك يا أبو نزيه، لكل مصنع زمن ورجال.

 

Email