تطورات الخطاب السياسي للنخبة المصرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعاني الحياة السياسية في مصر من غياب المدارس السياسية الحزبية، ومؤسسات التنشئة داخلها، وهو ما ينعكس في الأزمة التكوينية للخطاب السياسي الحزبي، وفي المرحلة شبه الليبرالية كانت الأحزاب السياسية، والمجتمع شبه المفتوح والحيوية الثقافية والانفتاح علي مدارس الفكر السياسي والفلسفي الأوروبي، وثقافة المدينة الحديثة، يشكلون محركات التطور السياسي وتجلياته في رقي الخطاب السياسي للنخب الحزبية الحاكمة والمعارضة معاً، وارتفاع مستويات الحوار والجدل العام نسبياً داخل الأحزاب وخارجها، وفي المستوى الرفيع للخطاب البرلماني والتشريعي، كما يبرز في مدونات البرلمان والجدل الدستوري والقانوني رفيع المكانة والمقام، أثناء نظر القوانين الأساسية أو الفرعية، ومن أبرز الأمثلة على ذلك الأعمال التحضيرية للقانون المدني المصري الجديد، أو مناقشاته داخل البرلمان، وغيره من القوانين التي تم تعديلها وإصلاحها في أعقاب اتفاقية مونتريه 1937 الخاصة بالاستقلال القضائي وإلغاء الامتيازات الأجنبية.

يعود تطور الخطاب السياسي والتشريعي آنذاك لعديد الأسباب على رأسها ما يلي:

1- الحياة السياسية النشطة رغم بعض القيود عليها، كونها نتاجاً لدور الأحزاب كونها مدارس للتنشئة السياسية، والتفاعل والتناغم بين الحركة القومية الدستورية، وبين ضرورات تأصيل مكونات ومعاني الدولة الديمقراطية الدستورية، على النسق الغربي، والكفاح، من أجل الاستقلال والتحرر من نير الاستعمار البريطاني البغيض، لا سيما في إطار الوفد المصري حزب الحركة الوطنية وقياداته الشعبية وكوادره المتميزة، وكذلك حزب الأحرار الدستوريين وقياداته النخبوية الرفيعة.

2- التكوين المعرفي الرصين للنخب السياسية الحاكمة والمعارضة، ووجود بعض المفكرين الكبار ضمن تشكيلتهم، ومنهم على سبيل المثال محمد حسين هيكل، وطه حسين، وعباس العقاد، ليس هذا فحسب، بل وفي إطار سلطات الدولة الأخرى كالقضاء، حيث كان تكوين القاضي المصري يتسم بالجدية والعمق وروح الاجتهاد والتجديد، والاطلاع على القانون والقضاء المقارن كفتحي زغلول باشا، وعبد العزيز فهمي باشا، ومحمد نور بك النائب العام وآخرين كثرُ.

وثقافة بعض الأفنديات من موظفي الدولة من أمثال محمد عمر مؤلف سر تأخر المصريين.

3- الحداثة السياسية والقانونية والهندسات الاجتماعية والمعمارية والتخطيطية العمرانية الحديثة، أسست مع ثقافة المدينة الكوزموبوليتانية بيئة حاضنة للسياسة الحديثة في مواجهة بعض أبنية القوة التقليدية ونمط السيطرة الأبوي لأن السياسة الحديثة هي ابنة المدينة وثقافتها.

من هنا تشكل السياسي الحديث في مواجهة الأشكال ما قبل الحديثة لبناء القوة التقليدي وقادته الأبويين. من هنا يمكن القول: إن لا سياسة بلا سياسيين، ومن ثم لا سياسيين بلا سياسة، وتطور ديمقراطي ومؤسسات حديثة ودولة القانون الوضعي العصري.

منذ ثورة يوليو 1952، ورث نظام الثورة بعض فوائض السياسة والسياسيين، والروح القومية المصرية والتوق الشعبي العارم للاستقلال الوطني، في إطار مشروع تنموي يحقق العدالة الاجتماعية وحضور مصري متألق في الإقليم والعالم.

من هنا اعتمد نظام عبد ناصر في تأميمه للسياسة وإلغاء الحياة السياسية الديمقراطية على مواريث شبه ليبرالية ونخب رفيعة التكوين والخبرات الدولية والتكنوقراطية والبيروقراطية، على نحو ساعده في بناء مشروعه الذي حاز قاعدة تأييد اجتماعي واسعة، خاصة أن أغلب هؤلاء خايلهم مشروع الدولة المؤثرة والحديثة ذات الأدوار في السياسة الإقليمية والعالمية، ناهيك عن أنه رجل دولة يقرأ، مع فائض كاريزميته الساحرة.

كان الحزب السياسي الواحد علامة على سياسة التعبئة والهيمنة الأيديولوجية والرمزية، وغياب التعددية السياسية، وسطوة أجهزة القمع الأمني والرمزي، إلا أن التجربة الحزبية الشكلية والمقيدة على عهدي السادات، ومبارك، لم تنتج سياسيين بالمعنى الدقيق للكلمة في ظل سطوة الأجهزة الأمنية التي تحول دورها إلى مجالات هي أدخل في السياسة وأدوار السياسيين، بل ظهر بعض رجال السياسة داخل جهاز الأمن أكثر مهارة من قادة حزبيين موالين لا علاقة لهم بالسياسة، وذلك لخبراتهم السابقة، ولإمساكهم بملفات سياسية بامتياز. وكان الموالون ورجال السلطة جزءاً من البيروقراطية الأمنية وبعض التكنوقراط وفي لحظات الأزمات الكبرى، كان يتم اللجوء إلى الكبار ولو كانوا خصوماً أو معارضين.

كان الخطاب السياسي المنطوق وراءه بعض الكبار من الكتاب والخبراء، أما الخطاب الشفاهي فكان يحكمه غرور القوة والعفوية وضعف التكوين والحس والخيال واللغة السياسية للحاكم ونخبته العاجزة التي طالها الضعف المعرفي والسياسي، وهو ما كان يظهر في خطاب قادة الأغلبية في البرلمان، وفي وسائل الإعلام، حيث الضحالة العلمية، وعدم معرفة ما يجري في البلاد من تغيرات، وفي العالم والإقليم من تحولات كبري.

في أعقاب الانتفاضة الشعبية في 25 يناير ومراحل الانتقال، كانت الخطابات السياسية لجماعة الإخوان المسلمين- أيا كان اتجاهها الأيديولوجي والسياسي- هي تعبير ونتاج لموت السياسة، حيث سادت اللغة الجوفاء والشعاراتية، والعفوية الرعناء والضحالة، والعمى السياسي، وغياب المعرفة بما يجري داخلنا وحولنا في الإقليم والعالم، في ظل غياب رأسمال خبراتي حول الدولة الحديثة ومعناها وتقاليدها وثقافاتها. كانت أجهزة الدولة تعبيراً صافياً عن موت السياسة، ونقص الاحترافية الوظيفية والمهنية، حيث ظهرت حالة انكشاف كامل لنتائج الأمية السياسية، وضعف الكوادر وغياب الثقافة وسطوة الفهلوة والفساد، والاستثناءات محدودة في هذا الصدد.

الآن هناك بعض الخطابات العفوية والمتناقضة والمولدة للأزمات تتداولها النخبة الحزبية السياسية، وفي الصحف ووسائل الإعلام المرئية وغيرها هو ما يشير إلي خلل، يتطلب من السلطة الحاكمة مراجعات حول مستقبل الخطاب والتطور الديمقراطي ودولة القانون والعلاقات بين الأجيال، وبناء التوافقات الوطنية، الحوار حول هندسة الدولة الحديثة وقانونها ومؤسساتها مهم، حيثُ لم تعد أجيال المستقبل الشابة -ابنة عالمها الرقمي واتصالها الدائم، بما يجري في دنيانا- قادرة على استيعاب نمط الخطاب السياسي القديم، والحياة الحزبية القديمة.

Email