فِصَام مَتْن الطّائِرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتجلى حالة »الفصام الاجتماعي« عند البشر في مواقف يغيب فيها العقل والعاطفة معاً وتستشري عندهم الأنا الهشة كرغوة صابون تتكاثر خفيفة خاوية إلا من الفراغ، ويشكل هذا الاضطراب العاطفي والإنساني عند كثير من البشر إطاراً عصبياً يحكم التعاملات، وتصرفاً ساذجاً غير مبرر تجاه مواقف اجتماعية محددة، فلا نعامل الناس بمثل ما نحب أن يعاملوننا.

على طريق عودتي إلى أبوظبي من إجازتي وصلت متأخراً، فنظرت إلى موظفة خطوط الطيران، وقالت لي بأسف أنت متأخر، سيجلس ابنك الصغير في مكان بعيد عن مقعدك، فنظرت إلى بطنها وابتسمت، وسألتها، كيف صحة »البيبي« وأغدقت عليها بالمجاملات ونعمة الأولاد ودعائي لها بالسلامة وللمولود المنتظر، فابتسمت وقالت إنه ولد كثير الحركة ومشاكس..

وقد نضج بما فيه الكفاية لينطلق. ابتسمت لي، وقالت ابنك الصغير بجانب النافذة، أما مكانك.. وتحسست بطنها، وقالت: بجانبه تماماً، وغمزت بعينها وكأنها تقول إنه فضل خاص تقدمه لمشاعر الأبوة لدي والأمومة المنتظرة لديها. وصلتني الإيماءة وسعدت بالموقف وعلمت أنها رأت في علاقتي بابني حرصاً يثري أمومتها المقبلة، رفعت ابني إلى أعلى وأوعزت له بأن يقول: شكراً، وقد فعل.

كان موسم العودة إلى المدارس من إجازة الربيع، وقد اكتظت الطائرة بالأطفال بمختلف الأعمار، وتَحوّل متن الطائرة مرتعاً للأطفال إلا من هدّه التعب وغلبه النعاس في مقعده، جاورني طفل ذكي لم يهدأ طوال الرحلة لا بالحركة ولا بالحديث. أيقظني من نومي مرات عدة ، إذ كان يحاول أن يصل إلى ابني عند النافذة.

أصابني الانزعاج لوهلة، ولكن تذكرت كم كان ابني مشاكساً على متن الطائرات. غَمَر الحرج والدة الطفل وحاولت أن تحاصره وتلهيه وقد ساعداها على ذلك ولداها ولكن دون جدوى، قررت أن أخفف عنها حرجها، فأوعزت لها أن تتركه على سجيّته وأتولى أنا وابني نصيبنا من مشاكساته الجميلة والذكية والمضحكة..

وهذا إذا تعاملنا معه من دون امتعاض أو انزعاج، وتفاعلت معه بالطريقة التي تفاعل بها معه ولدي. وبالفعل تبادلنا معه الحركات والكلمات وأحياناً اللكمات..

وتحايلت عليه لأخفف من فضوله لاكتشاف هذا المكان الغريب عليه، المليء بالطاقة السلبية للبشر، فأناس أسيرو كراسيهم، وآخرون نيام يشخرون، وكثير مرتبكون، وخائفون أصابتهم فوبيا الأماكن الضيّقة، وآخرون مرتعبون من الأماكن العالية، فما بالك إذا كانوا على ارتفاع ما يزيد على 13 ألف قدم لا يرون سوى بياض السحاب وسواد الليل.

ما ساءني أن بعض حبيسي أماكنهم الموتورين والذين حاصروا أبناءهم يميناً ويساراً، بدا عليهم الحنق وعدم الارتياح أنني أمازح الطفل المشاكس الطليق، وأستمتع بوقتي معه، فلم يعد مزعجاً بالنسبة لي، بل على العكس أصبحنا ثلاثتنا أنا والطفل عبدالرحمن وابني مالك مزعجين للآخرين الحانقين، أمضينا وقتاً بهيجاً لأن محبتي لذلك الطفل جعلت من رحلتنا أنا وابني ممتعة ومرحة..

في حين أن البعض في الكراسي الأمامية البعيدة أصابهم البرود والانزعاج من الطفل الذي كان يتنقل بعفوية بين الناس غير آبه بالفوبيا أو بالقلق الذي أصاب معظمهم. نظرت لأمّه، وعلى ما يبدو أنها لاحظت امرأة أخرى وقد رمقت الطفل عبدالرحمن ممتعضة بنظرة تقول فيها: »إنك طفل غير مرغوب فيك«. والأطفال أذكياء في فهم النظرات ومغازيها، لكنه لم يأبه.

حينها قررت بطريقة لا تخلو من اللؤم، أن أضاعف لعبي ومرحي مع الطفل استمتاعاً ونكاية بالمرأة العبوس. وبالفعل انتقلت عدوى اللعب مني إلى بعض الركاب في الأمام والخلف، وبدا الكل يداعب الطفل ويلهو معه..

وقد كان خفيفاً جميلاً ومعبراً ديناميكياً لدرجة أن بعض الركاب بدأ ينافسني على اللعب معه. استطاع أن يعالج بعض القلق والتوتر لديهم ويختزل الوقت الطويل البطيء. بتفاعله المستمر طوال الرحلة ملأ الفضاء وحرك السكون وهزم الوجوم في وجوههم، إلا تلك المرأة العبوس في المقدمة التي لم يرق لها أن عبدالرحمن يحاول أن يلهو مع طفلتها.

وتلبية لتعليمات السلامة قبل الهبوط، طلبت أم الطفل عبدالرحمن أن يعود إليها في مكانه، أفلت من يدها وهرب إلى ناحيتي وزاحمني في مقعدي، لكنه سرعان ما عاد إلى حضن أمه مع هدير المحركات باقتراب الطائرة من أرض المطار. عندها هدأ المكان. الكل من حولنا استمتع بالرحلة بفضل الطفل عبدالرحمن إلا تلك المرأة العبوسة في المقدمة..

وقد أصابها الفصام العاطفي، والتي قبلت من أطفالها المشاكسة قبل سنوات، وترفضها من أبناء الآخرين اليوم. إن أجمل ما في الطفولة أنها تجتاحنا دون استئذان وتكسر المألوف فينا لأن فيها الحياة الخالصة..

لقد وحّدنا الطفل وبقي يقرع قلوب الركاب حتى فتحها وجمعها بعفويته ومحبته وخفة ظله، وهزم فينا أي فصام عاطفي محتمل سببه أننا قد نبيح لأطفالنا اللعب والمشاكسة ونمنعه عن الآخرين. لقد لهونا جميعاً، واستمتعت أنا ومالك برحلتنا مع صديق جديد، أما من أوصد باب الطفولة وتكوّر على نفسه، فأولئك ليس لهم علاج لا في الصعود ولا في الهبوط، لا في السماء ولا في الأرض.

 

Email