إنْ لَسَعَ مَاتْ

ت + ت - الحجم الطبيعي

لاهثاً، متعثراً.. ناهضاً من كبواته، مستأنفاً مصراً على تحقيق حلمه العصيّ البعيد، مدفوعاً بحبّه للمال، صارع كل شيء حتى الهواء وطواحينه، فقد أصرّ على أن أي يحقق حلم الثراء، وأقسم بعذابات أمّه وبطفولته البائسة بأن يصبح من أصحاب الملايين فيعوّض أمه حرمانها وهذا البؤس في هذا الحي الفقير. داس على من حوله بكل الوسائل الناعمة والصلفة وصعد.

مع كل ضحية كان يبرر خطيئته ويصعد، ويُخفي تَسَلّقه ووصوليته بكل ما أوصى به «ميكافيللي» وبكل ما أوتي من جمال اللغة وتعابير الوجه المسالم والوعود الوردية. هدفه الثراء أولاً وبأي ثمن «فكل شيء مباح ما دامت هناك القوة اللازمة لتحقيقه»، أما القِيَم فهي مؤقتة ومتغيّرة والغاية هي الثابت الوحيد في حياته.

قيمة البشر من حوله تعلو وتهبط كمؤشر الأسواق المالية بقدر ما يستفيد منهم ويوظفهم لخدمته، غير ذلك فهم عالة وعبء ومُستَهْلَكُون ومُستَهلِكُون، ولا حاجة لهم. القوة لديه وحدها وراء الاعتراف بقيمة الأشياء، فما دمت قويّاً فرأيك سديد، وما دمت ثرياً فأنت على صواب وحكيم.

جرّب وعمل كل المحاولات من أجل المال، حتى إنه لم يغفل ورقة اليانصيب الأسبوعية؛ فالحظ جهد المحظوظين وهدية خلاصهم من الفقر، فمن يدري قد يستريح صاحبنا من لهاثه بضربة حظ. ولكنه نسي أننا جميعاً نتساوى بالحظ، وللحظ معاييره التي لا نفهمها، ونجتهد في تفسيرها، عبر كل ما يحيط بنا، بالرقم..

واللون، وخيوط القهوة وخطوط الكف، والحجر، والعطر، والبخور، والنجوم والكواكب، نُلْقِي بالغامض عليها علّها تُلقي ببريقها أملاً بعودة المفقود أو كسب المنشود.

اشترى صديقنا الميكافيللي خمس أوراق يانصيب دفعة واحدة بأرقام غير متسلسلة ومتباعدة، تضمنت الرقم سبعة، تَيَمّنا منه بأن القطة لها سبعة أرواح كما يُقال، وأنه يتفاءل بها، كيف لا، وهو المندفع نحو أهدافه ولا يخشى الهزيمة، فله من الأرواح ما يكفي لتبقيه مُستَعِراً على قيد الأمل والهدف المنشود ليتحقق حتى ولو بضربة حظ.

راقب صديقنا عملية سحب الجوائز بكل فئاتها عبر شاشات التلفاز، وكلما ظهر وغاب الرقم سبعة خفق قلبه ولعن حظه العاثر، وعلل نفسه بأمل أن سيحالفه الحظ في المرة القادمة. خرج إلى الشارع غاضباً، وركل بقدمه نقود ذلك المتسول الأعمى التي كان يجمعها في وعاء معدني على زاوية الشارع، ومضى، وصاح الرجل الأعمى بأعلى صوته يلعنه..

وبدا الرجل العجوز يتحسس الأرض زاحفاً على ركبتيه يلتقط نقوده قطعة قطعة. وعاد «الميكافيللي» ثانية وداس بحذائه على يد الأعمى وسحق أصابعه على أرض الإسفلت، والتقط عدداً من القطع النقدية، وتأملها، ووضعها في جيبه.

راقت لصديقنا الميكافيللي فكرة التسول والنصب والاحتيال والتدليس، ولكن هذه المرة لن يكون هو الأعمى، بل الآخرون هم العميان، فلن يتعرفوا عليه أو على نواياه. ذهب وابتاع بكل ما لديه من مال قليل الأصباغ والباروكات والملابس المستعملة الرثة، وأخرى الأنيقة، ومن الساعات المقلدة بعلاماتها الفاخرة، ونظارات شمسية، وأحذية وخواتم وغيرها من الأكسسوارات..

فهي جميعها أدوات الوسيلة على طريق الغاية، وضعها جميعها في غرفته، وبدأ كل يوم يتقمص شخصية، ابتداء من رجل الأعمال التاجر، رجل الدين الداعية، المتسول الفقير، الطبيب المعالج، الرياضي المتمرس، العرّاف الشافي، وغيرها من الشخصيات. وذات يوم قبل أن يخرج من منزله مزيناً متخفيّاً بأدوات الرذيلة على طريق الخطيئة، سألته أمه وهي الضعيفة البصر والحيلة غزيرة الحكمة والبصيرة:

ما الذي يجعلك يا ولدي تتغير وتتبدل هكذا كل صباح، فأجابها بأنه بدأ يعمل ممثلاً محترفاً في هذه الحياة، ويستدعي منه تقمص شخصيات عديدة، وأنه أصبح الُمبْصِر الوحيد بفضل هذه المهنة، وأنه يتنقل بخفة النحلة، ويمتص الرحيق من كل أنواع الزهور، وأنه لا لن يتوانى بأن يلسع من يقف في طريقه حتى ولو في عينه.

وقبل أن يغلق الباب ويذهب في أعمال النصب والاحتيال، بكت الأم وقالت متهدجة: عُدْ يا وَلَدي، عُد إليَّ، فما عدتُّ أعرفك، عُدْ فعسلك لا ينفعك ما دمت أنت لستَ أنتَ، ولن ينفعني ما دام أني لم أعد أتعرف عليك، ولتعلم أن النحل إن لسَعَ مات.

 

Email