«المُهْجَةُ» التي في خَاطِري

ت + ت - الحجم الطبيعي

في وصف عكا قال الشاعر محمود درويش: هي «أجمل المدن القديمة، وأقدم المدن الجميلة»، وبذلك يضيف الى الذاكرة العربية والأدبية وصفاً جديداً يعمّق المعنى في المكان، وكم من الفلاسفة والشعراء والرسامين والروائيين حاولوا أن يطرقوا باب المعنى ليجسدوا مدنهم الجميلة، فإذا كان المكان بمدنه هو أثر التاريخ على الجغرافيا، فإن الدلالة والثقافة هي أثر الروح في المكان.

بعض الأمكنة تفرض معناها الشائع نظراً لفرادة موقعها أو شكلها فتأخذ الاسم مثل بودابست وهي «لؤلؤة الدانوب»، نسبة إلى شريان المجر النهري، وكذلك «عاصمة الألب» جرينوبل على جبال الألب، أو لطبيعتها كما هي الحال في فلورنسا ..

وهي «مدينة الليلك» ذلك الزهر التي تشتهر به المدينة، والبتراء – «المدينة الوردية» للونها المُحْمَر، و«مدينة الضباب» للندن، و«النور» لباريس. وتُحال تسمية بعض المدن لأحداث تاريخية فرَضَت عليها اسمها مثل القاهرة، والتي تسمى قاهرة المعز نسبة إلى المعز لدين الله الفاطمي، وإن كان البعض يسميها «باريس النيل».

والكثير منها يحمل أسماء معنوية حالمة وجميلة تعكس الجانب الروحاني والديني مثل «الُمقَدّسة» لمدينة القدس، والاجتماعي مثل «الخطيئة» لمدينة لاس فيجاس الأميركية، وغيرها من المُسميّات، التي تتراوح بين «البهجة» للجزائر، و«السلام» لجنيف، «الأحلام» لمدينة مومبي، بل إن بعضها أخذ اسم التوأمة بفعل التشابه في نمط الحياة مثل بيروت «باريس الشرق».

وتضيف الألقاب والمُسميّات هويّة جديدة تتناسب مع التوجهات الثقافية والاجتماعية والعمق التاريخي والطبيعي للمدن، فتكون الأسماء إطاراً مؤثراً للتجربة السياحية والثقافية لأهل المدينة والزائرين..

ومثال ذلك حينما أطلق المحرر الرياضي جون فيتزجيرالد في عموده الصحفي في العام 1920 في صحيفة «نيويورك تلغراف» على مدينة نيويورك «التفاحة الكبيرة» لمرجعية السباقات العديدة التي تَعُج بها المدينة وتجمع المتنافسين، وفرض نفسه هذا الاسم الاستعاري في تلك الفترة، وبعد خمسين عاما قام مكتب سياحة المؤتمرات في نيويورك، بتنفيذ حملة واسعة للترويج لهذا اللقب وتعميقه في الوجدان الجمعي السياحي العالمي..

وقد نجحت الحملة وأصبحت «التفاحة الكبيرة» في كل مكان من أرجاء المدينة وغدت أيقونة سياحية وقيمة معادلة رائعة لكل ما هو جميل في نيويورك ببعدها الاقتصادي العالمي، والسياحي، والرياضي والثقافي والعلمي، وغيره.

ولكن ثمة مدن جميلة لم تحظ بفرصة التسمية الاستعارية، إما لأنها حديثة أو لأن تاريخ عمرها الترويجي السياحي ليس بكبير، أو للاعتقاد أن الاسم الأصلي الرسمي هو أكثر تعبيراً ودلالة من أي اسم آخر..

إلا أنه في عالم التسويق وتحويل المادي والمعنوي إلى منتج يخضع إلى المنافسة ومستويات عميقة من الجمال والتجميل والتسويق، وأهم هذه المنتجات هي الوجهة ذاتها بما اكتنزت من تجربة إنسانية وسياحية متنوعة وواسعة، وفي مقدمته العمق التاريخي والإنساني الأصيل.

ولهذا فإن التسميات الاستعارية كثيفة المعنى والتعبير باتت ضرورية في عالم أصبح فيه التنقل والسفر سهلاً وسريعاً، والمنافسة محتدمة لاستقطاب الزوار لنيل حصة من الاقتصاد السياحي العالمي.

وأجمل المدن تلك التي تشتهر بفرادتها وتفتح ذراعيها للآخرين من كل الأجناس والأعراق، فتزداد شهرة على شهرة، وحياة على حياة، فيشكل تجربتها وسمعتها أهلها بقدر ما يسهم زوارها في ذلك.

التجربة السياحية تقوم أولاً وأخيراً على مبدأ التفاعل والتأثير المتبادل. إن أبهى المدن تلك التي تحوّلت ليس مجرد وجهة سياحية عابرة، وإنما ملاذا متكررا ومستداما للسياح والزائرين لأنها تكمّل شيئاً ما ينقص روحهم ووجدانهم في بلدانهم أو مزاراتهم الأخرى.

إن الاسم المستعار هو الدلال لمدننا الذي نداعب به زوارنا صغارا وكبارا، أفرادا وعائلات. لذا فإن التسمية يجب أن تخضع إلى دراسة تشريحيّة، وتفكيكية ثم تركيبية، نتجنب فيها التشابه أو التكرار مع مسميات مدن أخرى، ويجب أن تجسد التسمية جوهر المدينة ومعناها الإنساني والتاريخي ومستقبلها، وفرادة مكوناتها المدنية والثقافية..

ومن هنا ليس سهلاً أن نبتكر اسما استعارياً دلالياً نكافئ به مدننا الجميلة، ونضيف على جمالها جمالاً معنويا وجدانياً خارقاً.

ولأني أعيش في مدينة أبوظبي لسنوات عديدة، وهي المدينة الأجمل «والأروق» في نظري، وعلى الرغم من أنني طفت مدنا عالمية كثيرة، إلا أنني أراها كعش الطائر وبيته الآمن، إن غاب عنها أصابه القلق والوحدة والتيه وتشنجت بوصلته، فمن بحرها التي تسيل زرقته على شواطئها المفعمة برائحة الحياة، وشوارعها الحميمية..

وقد أرخت مبانيها ظلالها على شوارعها ورؤوس مُشاتها، وتلك الهبوب والنسمات التي تسري بين مبانيها وكأنها رئات المدينة وينابيع هوائها، وشتائها الربيعي الفريد حيث يقابله في نفس الفترة البرد والعواصف والأعاصير في بلدان ليست بعيدة.

الأمن والأمان تلك الشجرة الوارفة التي يستظل بها أهلها وقاطنوها وزوارها، وفرص النجاح والعمل لكل من استقر فيها، فأي الأسماء يمكن أن تليق بهذه المدينة العصرية النابضة بالتسامح والحب والتنوع العرقي والثقافي والإثني. أي دلال تعبيري وأي تعبير دلالي يمكن أن يليق بأبوظبي التي في خاطري، وخاطر الكثيرين، بحثت عن صفة مفعمة بالمعنى فوجدتها «المهجة» التي في قلبي... فهي:

«من كل شيء خالصه وجوهره»، و «دم القلب»، و «الروح والنفس»، فيُقَال: بذل مهجة روحه فداءً للوطن. وهي كذلك بالنسبة لي بعد 18 عاماً وأنا أتنفس هواءها وأسبح في بحرها واسترخي في صحرائها وآكل من رزقها وتمرها، مثلي مثل الملايين فيها قاطنين وزائرين.

 

 

Email