الرّماديون

ت + ت - الحجم الطبيعي

موتى أحياء وأحياء موتى، بعضهم يعض أصابعه ندماً وحياء، بعضهن يقطّعن أصابعهن شغفاً وحباً، وآخرون وأخريات موتى وهم أحياء لا يأبهون، فلا شغف ولا ندم..

ولا أثر لهم سوى أنهم يدخلون ويخرجون من حياتنا صغاراً محملين بخيبة الأمل فيهم، يمرّون على الحق والخير والجمال والفرح والحزن والحب وحتى الموت كمرورهم على مطاعم الأكلات السريعة، بلا حواس أو تذوق، فحياتهم كمعدة تُملأ لتحرك ماكيناتهم الصمّاء، أما الروح لديهم فهي خالية وخاوية على عروشها، لو قُدّر للروح أن تحكم نفسها بنفسها لانشقت عن صاحبها لحظة أن خذلها ذات ظهيرة، إذ لم يحزن لفراق قريب أو صديق، أو بكاء شريد أو يأبه لمناداة غريق، فكيف لا، وقد عطّل بعضهم حواسه الملموسة وغير الملموسة، فأرواحنا تتعذب إن لم نحيا بها ونرويها بحواسنا. فحواسنا نوافذنا إلى أرواحنا، وجسرها الحي النابض إلينا.

نرى بعضهم حياديين أمام كل ما يخفق له القلب فرحاً أو حزناً، رماديين أمام الحياة والموت، عاديين أمام الألم والعذابات والفقدان الكبير، ما دام الأمر بعيداً عن أجسادهم وجيوبهم.

وما دام أن الحدث لا يسبب لهم خسارة مالية أو تعباً جسمانياً أو حتى جهداً فكرياً طبيعياً أو التزاماً اجتماعياً غير منفعي، شعارهم «المهم أنا، أنا أولاً، أنا ومن بعدي الطوفان». نتأملهم ونستغرب ونتفاجأ، وندرك بمرارة ولو متأخرين أن فاقد الشيء لا يعطيه، فالإنسان امتداد لإنسانيته، وأما الشحيح في عواطفه بخيل حتى في ماله. والكريم في حياته محبّ فياض في حواسه.

إذاً، لماذا نحتفظ بشحيحي العواطف في حياتنا في حين أن الكثير من الأموات الأوفياء الكرماء باقون وخالدون في حواسنا حاضرون في عواطفنا، إذا حزنا نتذكرهم وإذا فرحنا نتذكرهم. فثمة أموات أحياء فينا وثمة أحياء يجب أن يموتوا فينا ويتلاشوا من الذاكرة، ونشيّعهم دون تردد أو أسف. لم لا، ونحن لا نمثل لهم في علاقتنا سوى قطعة همبرغر في ذلك المطعم السريع أو حتى ورقة شجر يدوسونها لحظة جفافها وسقوطها واختفاء ظلها عليهم.

هذا النوع من البشر منفصلي الروح، فقيري الإحساس، دخيلي الحياة، لن يدوموا طويلاً، ستقتلهم تخمتهم وتخنقهم الأنا المتضخمة في حناجرهم، وستنفيهم أنانيتهم، وتنشق عنهم أرواحهم من جفاف أحاسيسهم وتلوثها وضعف اتزانها، وهنا لن يستحقوا أن يحتلوا جزءاً من ذاكرتنا. أما أنتم فكونوا أحياء محبين وعاطفيين وشغوفين بأحبائكم وأصدقائكم، وحتى بالعصافير الجائعة على نوافذكم، وعضوا أصابعكم ندماً على خطأ.

لأن في ذلك تعبيراً عن الحب والإنسان فيكم، وحتى قطعوها شغفاً لأجل من تحبون، وابكوا ما استطعتم دون تردد أو كياسة على فقدان حبيب أو صديق، وغير ذلك، فأنتم أموات رماديون غائبون. فلنحزن، ولنفرح، ولنبك لنحيا كما يجب أن يحيا الإنسان في روحه وأحاسيسه.

ولنلفظ من عقولنا أولئك الذين خذلونا كبشر، وعزاؤنا أنهم أظهروا لنا تلوثهم في علاقاتهم، فلننسهم إلى الأبد، لنعش أصحاء في علاقاتنا مع الآخرين الأوفياء كي نحصن أحلامنا وقلوبنا وعواطفنا من التسوس، وأرواحنا، وأحاسيسنا من خيبات الأمل الكبرى. وكما قالت الكاتبة الجزائرية، أحلام مستغانمي:

«ليس ثمة موتى غير أولئك الذين نواريهم في مقبرة الذاكرة. إذاً، يمكننا بالنسيان، أن نشيّع من شئنا من الأحياء، فنستيقظ ذات صباح ونقرر أنهم ما عادوا هنا».

وأضيف أنهم سيموتون مرتين، مرة حين نحيا بموتهم بعيدين عنهم، والأخرى حين يموتون وحيدين بلا محبين أو دموع صادقة. يصمت البشر حزناً على من يفارقونهم من الأحباء، أما في حالة فقداننا أولئك الرماديين الذين لا يأبهون إلا بأنفسهم، سوف نصمت عن الكلام، ونبوح بالحياة دون توقف أو ملل متجاوزين خيبات الأمل.

 

Email