فيم يخطئ «التنويريون» المعاصرون؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحكى أن جماعة من الناس المختلفين في ما بينهم اختلافاً شديداً، في مستوى الثراء، وفي ما صادفوه في حياتهم من حظ سعيد أو سيئ، وفي نوع العقلية وطريقة التفكير.

جاءهم من يقول لهم إن كلاً منهم يستطيع الآن أن يستبدل بما لديه ما يراه قد تحقق لغيره، من ثراء أو حظ سعيد أو عقلية سليمة، فإذا بكل منهم يختار لنفسه نصيب شخص غيره ممن يراه أكثر ثراء منه؟، أو أسعد حظاً، ولكن في ما يتعلق بنوع العقلية وطريقة التفكير، فضل كل منهم أن يحتفظ لنفسه بعقله.

القصة لا تخلو من حكمة، إذ تشير إلى عجز الإنسان عن إدراك عيوبه العقلية، بينما يجد من السهل أن يرى قلة ماله أو سوء حظه.

فالإنسان يصعب عليه مثلاً أن يعترف (لنفسه أو لغيره)، بالتحيز لموقف فكري دون غيره (لأسباب لا عقلانية)، بينما يسهل عليه اكتشاف تحيزات الآخرين (هل الأمر يشبه قدرة المرء علي تمييز الروائح المنبعثة من أجسام الآخرين، أكثر من تلك المنبعثة من جسمه هو؟)، وكما أن «الحب أعمى» كما يقال، فإن من الصعب أن تكون عقلانياً تماماً في الحكم على شخص تحبه، أو إزاء ظاهرة تحبها أو اعتدت عليها.

من الأسهل أن تكون عادلاً وعقلانياً إزاء شخص لا تعرفه، ولا تحمل إزاءه أي عاطفة، ولكن من الصعب أن تكون كذلك إزاء شخص تحبه بشدة أو تكرهه بشدة.

في كتاب عن فولتير، ذلك التنويري العظيم، الذي رفع لواء العقلانية ضد سيطرة أفكار العصور الوسطى، كتب رجل معجب أشد الإعجاب بفولتير (هو الفيلسوف البريطاني أفريد إيير، فلا يمكن اتهامه بأنه يتجنى عليه، جاء الفقرة الآتية: «كان فولتير يجد من السهل أن يغض البصر عن تجاوزات هؤلاء الحكام الذين يحوزون تقديره واحترامه، ويعتبرهم من قبيل (المستبدين العادلين).

فهو مثلاً في كتابه (تاريخ الإمبراطورية الروسية تحت حكم بطرس الأكبر)، يحاول بشدة التقليل من أهمية ما ارتكبه بطرس من فظائع، مدفوعاً بحماسه لدور بطرس في تحديث وتمدين روسيا. كذلك لم يستطع فولتير قط أن يرى فردريك الأكبر، ملك بروسيا، على حقيقته، أو أن يصفه بما يستحقه (كمدمن حرب).

أما المثل الصارخ فنجده في علاقة فولتير بكاترين إمبراطورة روسيا، حيث لم يكن يرى فولتير كاترين إلا من خلال موقفها المؤيد لفلسفة التنوير، فما دامت كاترين قد قامت بشراء مكتبة ديدرو لنفسها، وقبلت أن تطعم نفسها ضد الجدري، في الوقت الذي كان التطعيم فيه ممنوعاً في فرنسا، ولم تمارس أي عمل من أعمال القهر باسم الدين، فما الذي يهم فولتير من أنها كانت قد غفلت مثلاً عن تحرير الأقنان في روسيا؟».

في مثال آخر يتعلق بنا نحن، نحن نعرف المكانة التي يحتلها الدكتور طه حسين، كرائد من رواد التنوير في الفكر المصري والعربي، ويتخذ من كتابه (في الشعر الجاهلي) الذي صدر في 1926، علاقة من علاقات هذا التنوير، ولكن طه حسين في هذا الكتاب نفسه، اتخذ موقفاً غريباً من الشعر الجاهلي.

لا أظن أن كاتباً عربياً مهماً قد أيده فيه، وهو أن هذا الشعر لم يوضع في الجاهلية، بل هو منحول وُضع بعد الإسلام لأغراض شتى، أهمها الدفاع عن الإسلام نفسه، من المعروف أن طه حسين (اقتبس هذا الموقف من مستشرق بريطاني هو مارغليوث).

لا ينتظر منه أن يكون ذا قدرة فائقة علي تذوق الشعر العربي، لقد كتب شكيب أرسلان (الذي يلقب أحياناً بأمير البيان) تعليقاً على هذا: «إن طه حسين كان في هذا مدفوعاً بعقيدة سخيفة فاشية، أنه لما كان الأوروبي قوله الفصل في الكيمياء والطبيعيات والطب والهندسة.. إلخ، لزم أن يكون قوله الفصل أيضاً في المفاضلة بين الفرزدق وجرير والأخطل».

ها قد مرت سنوات كثيرة على فولتير وبداية عصر التنوير الأوروبي، تزيد على قرنين، ومرت سنوات كثيرة على ظهور كتاب طه حسين وبداية عصر التنوير في مصر (ما يقرب من مئة عام)، ولكن حركة التنوير لم تتوقف بالطبع، ومن ناحية أخرى، نجد أمثلة للامتناع عن تحكيم العقل إزاء ظواهر أو مواقف معينة، رغم تعارضها الصارخ مع المصلحة العامة أو الذوق السليم (وهذا هو التفريط).

من أمثلة هذا النوع أيضاً، ما حدث أكثر من مرة في مصر، خلال العقود الماضية، وما زال يحدث، من كتابات تقدم إلينا باسم التنوير، مع أنها في الحقيقة لا تحقق الصالح العام، وتتجاوز حدود الأدب. كما نجد كتابات تقدم إلينا أيضاً باسم التنوير، ولكنها تهاجم متدينين عقلانيين، الدين لديهم وسيلة لتحرير العقل لا لقهره، ولتحرير الأوطان لا لتبرير خنوعها.

Email