كل هذا ولا نرى حجم الخطر؟!

لا أظن أن مراقبا للأوضاع في المنطقة قد أدهشته كثيرا الدعوة التي ألقاها مسعود البرزاني لتنظيم استفتاء حول إقامة دولة مستقلة في كردستان شمال العراق! الدهشة تأتي من الحديث عن ضغوط من أميركا وحلفائها في الغرب على البرزاني لـ«تأجيل» هذه الخطوة بينما نعرف جميعا الجهود التي قام بها من يتحدثون الآن عن «الضغوط» من أجل تمزيق العراق، ومن أجل إعادة تقسيمه تمهيدا لإعادة تقسيم المنطقة كلها.

منذ الغزو الأميركي للعراق، والهدف هو تمزيق هذه الدولة الأساسية في الجسد العربي. وهنا لا يدهشنا أيضا أن يترافق حديث البرزاني مع إطلاق الحديث عن محادثات أميركية مع أطراف عراقية لها مكانتها السياسية حول إقليم «سني» في وسط العراق ليكون الجنوب من نصيب الشيعة.

وبالطبع سيتذكر العراقيون (ولعل العرب جميعا يتذكرون معهم) كيف انطلقت داعش لتلتهم ما خطط لها أن تلتهمه من جسد العراق بلا مقاومة، ثم كيف انتفضت أميركا وحلفاؤها عندما اقترب «الدواعش» من إقليم كردستان العراق! ثم كيف توالت التصريحات حول مصير العراق بعد داعش، وكيف أوضحت أميركا رؤيتها على لسان الكثيرين من قادتها (ربما كان جو بايدن نائب الرئيس أوضحهم في الدعوة لتقسيم العراق)..

ولعل إسراع البرزاني في الإعلان عن خطوته بإجراء الاستفتاء، وهو يعرف العوائق والعقبات، هو تعبير عن رغبة في إقرار الأمر الواقع الجديد قبل نهاية ولاية أوباما، ورحيله مع نائبه بايدن أبرز المؤيدين علنا رغم الغضب التركي الذي سيزداد بالطبع بعد خطوة البرزاني الأخيرة!

ولا نتحدث هنا بمنطق المؤامرة، لكن بما وضعته المخططات الأميركية وغيرها أمامنا بوضوح وانكشاف تام، وهي تعلن الخريطة الجديدة التي تريدها لما يسمونه الشرق الأوسط، وهو في الحقيقة لا يخرج عن مخطط تقسيم جديد للمنطقة العربية يحولها إلى أشلاء لدول.. بعد أن كانت ـ في يوم ما ـ تطمح لأن تكون قوة سياسية واقتصادية وعسكرية واحدة، قادرة على صد العدوان وعلى أن تقرر مصيرها بنفسها.

وقد تكون العقبات أكثر من «الطموح» الكردي كما يسميه الرئيس العراقي فؤاد معصوم، وهو يحاول التخفيف من الأمر بأنه ليس هناك اتفاق عليه بين مواطني العراق الأكراد، لكن هذا «الطموح» سيبقى ينتظر التوقيت وستبقى معه «طموحات» أخرى أخطر، فتقسيم ما تبقى من العراق بين إقليم سني وآخر شيعي، هو المقدمة الطبيعية للانفصال، والكارثة أنه المقدمة لتثبيت مفهوم الدولة المذهبية، لكي ينتقل إلى باقي المنطقة العربية.

ومن سوريا ولبنان، إلى ليبيا كي تفتح أبواب التقسيم في شمال أفريقيا، وإلى اليمن لتفتح هذه الأبواب في الجزيرة العربية. أما السودان فقد سبق الجميع بالخطوة الأولى، وسيلحق بهم ـ وفق هذه السيناريوهات ـ في خطوات أخرى.

وليس هذا مجال إعادة الحديث عن هذه السيناريوهات التي لم تكن غائبة عنا طوال السنوات الماضية، ومع ذلك فإن معظم الدول العربية مازالت حتى الآن، تتصرف وكأن كل شيء على ما يرام! وكأنه لا خطر من سقوط دولة أخرى في الفوضى والدمار بعد العراق وسوريا وليبيا واليمن!

وكأنها لم تسمع قادة إيران وهم يرسلون التهديدات بأن أعلامهم سترتفع فوق عواصم عربية أخرى، وكأنهم لا يرون المنطقة وهي تسير إلى ما كان مخططا لها منذ منتصف القرن الماضي.

أي دويلات صغيرة متناحرة حتى إن جمعتها العروبة والتاريخ والمصير. بينما تبقى القوى الإقليمية التي تتولى ضبط أمور المنطقة لكبارهم ثلاثي أعضاء العروبة في إيران وإسرائيل وتركيا!

هذا بالتأكيد هو الوقت الذي يفيد فيه تذكير الجميع بأن الخطر يتهدد الجميع. وأنه لا معنى بألا نرى في جبهة الصمود ضد هذا المخطط المكشوف إلا عددا من دول الخليج في مقدمتها الإمارات والسعودية، بالإضافة إلى مصر الواقعة في قلب النار، والمحاطة بالخطر من كل حدودها، والأردن الذي يعاني من أوضاع بالغة الصعوبة..

بينما يبتعد العديد من الدول العربية عن المشاركة في صد الخطر، وكأنها ستبقى بعيدة عنه إذا مدت يدها لمن يعبثون بأمر الخليج، أو تفتح أبوابها لمن يخططون لإشاعة الفوضى في مصر أو السعودية أو لمن يستعدون لتحويل ليبيا إلى مركز للدواعش والإخوان، وتقسيم العراق كمقدمة لتقسيم «المقسم» من الوطن العربي!

لا يريد «البعض» أن يرى كيف تم تدمير العراق ثم كيف تم تقديمه كعربون مودة لملالي إيران، ولا يريد العرب أن يدركوا أن ما كان مطلوبا إنجازه في سوريا قد تم، وأن فصلا جديدا قد بدأ هناك بعد إعادة تقسيم الأدوار بين القوى الخارجية والإقليمية غير العربية.

ولا يريد البعض أن يدرك أن تدمير ليبيا لم يكن لإسقاط القذافي الذي كان قد استسلم لأميركا قبل سنوات، وإنما لكي تتحول ليبيا إلى هذا المشهد الذي نراه، والذي تمضي فيه داعش في تعزيز قواتها.

وإذا أدركت معظم دول الخليج حجم الخطر الإيراني، وضرورة التصدي للمؤامرة على اليمن، فإن البعض الآخر مازال يتصور أن القضية هي صراع قبلي، أو أن الوجود الإيراني هناك هو للسياحة، وليس لاستكمال مؤامرة تأجيج الصراع المذهبي، والتمهيد لمخطط التقسيم.

كل القوى الدولية والإقليمية تعرف أنها في عام حاسم.. الإدارة الأميركية عاجزة عن الفعل في عام تسليم الرئاسة. وأوروبا المنقسمة على نفسها تحاول صد المخاطر، وروسيا تقاتل من أجل حماية نفسها أو الحفاظ على مناطق نفوذها.

والإرهاب الذي انطلق بحماية أطراف دولية أو إقليمية يضرب المنطقة ويمهد لتنفيذ المخطط الأساسي.. والعرب أدركوا أن قوتهم الذاتية وحدها هي التي تحميهم والتصدي كبير، والمخاطر هائلة، لكن الوعي يتنامى بأن «العروبة» هي الخلاص الذي لا بديل عنه في مواجهة الخطر وفي إفشال كل محاولات «الخوارج» لضرب وحدتنا، ومؤامرات الأطراف الأميركية والدولية التي تعمل منذ أكثر من نصف قرن على نفي العروبة وتجزئة ما سبق أن أقدموا على تجزئته من وطننا العربي.