ما خفي أعظم

ت + ت - الحجم الطبيعي

بأناقتهم وبأحذيتهم الرجولية الكلاسيكية السوداء اللماعة وياقاتهم البيضاء برفقتهم النساء بقوامهن المنحوت وزيّهن المتميز وعدسات عيونهن الملونة اللاصقة يقفون مبتسمين في حفلهم السنوي أمام الكاميرا، يقفون وقفة الثقة والإنجاز. وأمام ذات الكاميرا وعدسة المصور ذاته تقف عائلة كبيرة بأكملها وبأبهى الملابس الرسمية، فربطة التوكسيدو التي ثُبّتت على الأعناق بتوازن ودقة..

والسيدات وقد تشابكت أيديهن الأزواج وحضن الآباء والأمهات واتكأوا على أكتاف أطفالهم، وتلك الجدة العجوز على مقعدها المتحرك، وقد بدا عليها الوحدة والتعب من كل هذه الرسميات التحضيرية لالتقاط الصورة والتي في نظرها لا تستحق كل هذا العناء..

ولا التركيز المكثف من أجل إطلاق إيماءات الفرح البرقية والسريعة التي ستخلدها عدسة المصور في حديقة المنزل الفسيح الفخم الذي تفوح منه رائحة العراقة بتصميمه وأناقته الأوروبية القديمة وأشجار حديقته الباسقة الممتلئة بغناء العصافير وزقزقة صغارها الجوعى في أعشاشها، جاء المصور ليخلد اللحظة السعيدة بمناسبة زواج الابن الأصغر للعائلة الأرستقراطية الهرمة الممتدة الجذور.

يتدخل المصور، وهو غالباً ما يكون المصور والمخرج معاً، حيث يعيد ترتيب المشهد العام، ويوزع أطراف الحضور بناء على الكبر والعمر، وليس على النفوذ، لأن المناسبة عائلية بحتة..

حيث يفرض الوقار سطوته على الجميع، فيعيد الترتيب من عين عدسته، والمشاهد العادي المتلقي، ليس لغد فقط وإنما للأبد ولأجيال العائلة القادمة، فتلك الصورة ستحكي كم أن العائلة بأفرادها وأحفادها فرحة ومتماسكة ومتآلفة لا شقاق ولا نزاع ولا ضغينة ولا ضرب تحت الحزام أو حتى فوقه بين أولاد العمومة أو الإخوة..

فالأنس والتجانس والمحبة عارمة تسري بين الجميع وهي اللغة الوحيدة التي يجب أن تعكسها الصورة، فالصورة هنا ليست بألف كلمة وإنما بألف موقف إيجابي من الحب والفرح يسري بين الحضور الجاهزين المتسمرين لالتقاط اللحظة الخالدة.

اصطفت العائلة ووقفت وجلست أو حتى تقرفصت بناء على أوامر المصور المخرج، فهو مايسترو الخديعة الاجتماعية الخالدة أو التجارية الخالدة في حالة اصطفاف موظفي الشركة في احتفالهم السنوي.

وقفت العائلة أمام الكاميرا كما أمر المصوّر الماهر، ولكن الوجوم والبغضاء ما زالت على وجوه الكبار أما الأطفال فلم يأبهوا باللعبة بقدر ما أرادو أن يبرزوا أنفسهم في الصورة كما هم.

صعد المصور خلف الكاميرا وطلب من الجميع الابتسام، إلا أن بعضهم وخصوصاً النساء منهم لم يفعلن ولم يمتثلن للأوامر، فقد تغلغل في قلب البعض الغضب أو الحقد أو حتى الخسارة أو التظلم من شقيقه أو شقيقها أو أولاد العم. فشل المصور..

لكنها حنكة المصور والمخرج معاً حيث تجتمعان، إذ تضاف عليها صفة جديدة للمصور كي ينجح في تزييف الواقع، فسرعان ما يتحول من مخرج ناهٍ وآمر إلى أراجوز أو بهلوان وكوميديان يرمي بحركاته أو نكاته فيكسر الوقار المألوف أو الواقع المر ليضحك الجميع، فيباغتهم بالتقاط الصورة ليأسر اللحظة العابرة السعيدة فيخلدها على أنها واقع أبدي ترفل في ظلها العائلة.

في الصورة الخالدة، أو الخديعة الأبدية، ثمة عناصر عصية على الامتثال لحيلته لم تنجح معها حِيَل المصور المخرج الثقيل البهلوان الخفيف، إنها الطبيعة من خلف الصورة وتلك العصافير التي تطعم صغارها في أعشاها بما اصطادته من فراشات وديدان..

وتلك القطة التي تنتظر أسفل الشجرة ذلك الصغير أن يسقط من عشه لتأكله بما أكل، وأيضاً نوعان من البشر لا يمكن أن تنطلي عليهم حيلة المصوّر البهلواني، إنهم القادمون أو الذاهبون من طرفي الحياة والموت..

فذلك الطفل البريء المحل للهو والطبيعة ولأقرانه وأقاربه، وتلك العجوز المدركة للمأساة فلا وقت لديها للزيف والمجاملة، فألمها وحزنها على أبنائها وأحفادها أكبر من أن تدعي الابتسامة برفع الوجنتين أو إظهار الأسنان ولو لعشر الثانية أمام فلاش الكاميرا البارق.

في كل صورة جماعية يتم ترتيبها ثمة شيء خفي وراء كواليسها لا يعرفه المشاهد، ولا حتى المصور ذاته، وثمة كيمياء بين البشر المصطفين والمبتسمين قد يفوح منه عطر اللحظة ولكنه دائم السم ودخان البغضاء ينفث بينهم حد الاختناق. وهو ما لا تلتقطه الصورة المرتبة، بل على العكس تزيده غياباً على غياب واختفاء على اختفاء.

ففي الصور غالباً ما خفي هو أعظم، إلا تلك الطبيعة بسمائها وأرضها وبحرها هي الوحيدة الصادقة أمام العدسة، فتبدلها وتلونها في فصولها هو جوهر طبيعتها وجمالها، أما البشر من حولنا فمليئون بالأقنعة والصراع والنفاق، والادعاء، والشقاق.

فما أجمل الصورة في الحديقة الغناء لو تضمنت فقط تلك الأم العجوز القريبة من الموت، وتلكم الأطفال المقبلون على الحياة يلهون من حولها، فهم الوحيدون القريبون منها، والباقي من البشر دخلاء وغير طبيعيين ونشاز على المشهد.

 

Email