نغمة الألم

ت + ت - الحجم الطبيعي

ثمة ملموسات في حياتنا نفرح أو نترح بها أو من أجلها، نشعر بالألم والغثيان عندما نرى سيارتنا المهشمة، ولا نفكر بأننا مازلنا أحياء، حتى يأتينا صوت من الخارج ليهنئنا بسلامة الجسد والروح، فننتشي للحظة وندرك كم نحن محظوظون، وسرعان ما يعود الألم ثانية ممزوجاً بالغضب، إذ ننظر إلى تلك المركبة الأنيقة التي تحولت إلى حطام، وفي اليوم التالي تسير الحياة فنصلح ما أفسده الحادث..

أو نستبدل بها أخرى، والبركة في شركات التأمين، وهكذا ننسى الألم. ونبدأ في انتظار مصادفة متهورة أخرى قد تكون قريبة أو بعيدة، لكنها حتماً ستحدث وفق ما ينص عليه قانون الاحتمالات في قيادة السيارات، المهم أننا نسير وننسى الألم ومسبباته، ما دام أن الألم مصدره خارجي وليس جسدياً في القلب أو الرئة أو الكليتين أو النخاع العصبي.

بمحاذاة إحدى المستشفيات للأمراض المزمنة، والتي غالباً تتحول إلى فندق أو سكن دائم نزلاؤه المرضى، ركنت سيارتي وبقيت في داخلها مشرعاً أبوابها مستمتعاً بهذا الجو الشتوي الجميل أدخن سيجارتي خِفْية فلا يراني أحد، فمن المخجل والمعيب أن أدخن في حرم هذا المستشفى..

لاسيّما وأن إشارات التوعية الصحية والأطباء والممرضين بلباسهم الأبيض يحاصرونني كالعفاريت الودودة من كل الجهات. وبانتظار أن يحين موعد الزيارة لأعود صديقي المريض الجديد المصاب حديثاً بمرض عضال سيبقيه طريح الفراش لسنوات، وبينما انتهيت من شهيقي وزفيري ونفيخي الرمادي بسرعة..

ودرءاً للحرج أو حتى الزجر، فلا يصح ذلك لي، فقد تجاوزت الأربعين من العمر، والحكمة تظهر في هذا السن إلا فيما يخص التدخين، فقد تتأجل إلى ما بعد الموت أو على سريره.

بقي على وقت الزيارة خمس دقائق، اتكأت فيها على سيارتي أتأمل نظافة الأشياء من حولي، وأصوات قصيرة تلسع مسامعي من كل جانب، أزيز محوّل الكهرباء وكأنه صوت الرصاص، همهمات الزوار وقد أصابهم الضجر والقلق، مكنسة عامل النظافة تحك الأرض وتجرح مسامعنا تحت أقدامنا، أطفال يلهون وكأنهم في رحلة تغيير جو وأجواء، رجل كهل يتمتم بهاتفه المحمول..

وقد أصابته المراهقة على كبر، يتمايل ويبتسم ويداعب أغصان الشجر، وينزع أوراقها دون أن يشعر. ورجل عجوز احدودب ظهره يبيع الورود الحمراء وقد فرقها وردة وردة..

ويستهدف الرجال قبل النساء، فمنهم من يبتاعها خجلاً، أو مداهنة، أو نفاقاً، أو تحايلاً، أو تودداً، أو ادعاءً، أو تعاطفاً، أو تقرباً من الراقدين والراقدات في المستشفى زوجة كانت أو صديقة، المهم أنه يعمل بالأصول، جازماً أن زيارته المُوَرّدَة المزهرة سوف تخفف الألم على المريض، فالوردة لها سحرها.

في غمرة هذا المشهد البصري المسموع، صدح صوت وكأنه مِفصل باب يفتح ويغلق يعلو صوته ويخبو، فكل شيء حولي هادئ إلا ما كبر وصرخ في مخيلتي، التمتمات، حك الأرض بالقش، صوت العصافير الخجول، بائع الورد العجوز ينادي بكلمات ذابلة تتساقط أحرفها على عتبة شفاهه، صفير المحرك الكهربائي البعيد، كل هذا هرب من أذني..

وبقي ذلك المفصل الذي يئن، اقتربت من نافذة مصدره لأرى مريضة في منتصف الثلاثين من عمرها في سريرها وحيدة تتحايل على ألمها بأنينها..

وبنغمات متفاوتة تتناسب مع قدرتها على التنفس تواسي نفسها بها، علّ جسدها يكتشف نغمة تصل إلى عمق الألم، فيهدأ قليلاً، مَن يا ترى مِن هؤلاء الزوار المنتظرين سيتحمل شرف محاولة تخفيف ألمها، بقبلة أو وردة أو كلمة طيبة، وهل سينجح، وقد رأيت الألم في عينيها قابعاً كالغول الشرس ينهشها خلية خلية ويحاصرها دون رحمة، إلا ما تمردت به فأطلقت أنفاسها أنينها.

فتح البواب مدخل المستشفى، وقد بدا بشاربيه الغليظين متجهّماً وجاداً، وكأنه كبير الأطباء أو مدير المستشفى العارف ببواطن الأمور، وتعامل مع الزوار باستخفاف كبير..

وكان يحدق في عيوننا واحداً واحداً بعينين جاحظتين وخدّين رفعهما إلى الأعلى مدعياً الابتسامة، وبوجه متناقض في تعابيره أراد أن يقول من خلاله للزوار: هل جئتم زائرين تعودون المرضى أم الواجب جرجركم وطاردكم بسوطه الاجتماعي غصباً وليس طوعاً.

دخلنا المستشفى، نتشابه في الملامح والورود التي باعنا إياها العجوز، وجمَّلنا أنفسنا بها، دخلت ووجدت صديقي نائماً وقد تقاسم غرفته أربع مرضى، كلهم نيام أو شبه نيام، إما شخير وإما أنين

. أصابني الرعب من فرط الألم، أودعت وردتي بصمت، وغادرت مسرعاً، وفي طريق عودتي اختلست النظر إلى نافذة تلك المرأة في سريرها وأنينها مازال يصدح، فوجدت الكهل المراهق بجانبها وقد أهداها وردته وانشغل بمراسلاته الفورية على هاتفه، وهي مازالت تئن وتبحث في أنينها عن نغمة بلسمها المفقودة، أما أنا فقدت سيارتي بسرعة وتهور وأشعلت سيجارتي بكل جهل وبلا حكمة.

 

Email