المدن العظيمة تحتاج أشخاصاً عظماء

ت + ت - الحجم الطبيعي

أطلق شاب يدعى دانييل مور تغريدة موجهة لناهيد ننشي: «ما فائدة هذه الجسور المكلفة التي تبنيها حالياً؟» ليأتيه الرد بعد ربع ساعة: «أظنها تستخدم لعبور النهر!»، يعود الأول ليطلب منه أن يوجه أحد المطاعم لتقديم الوجبة ذاتها الموجودة في الولايات المتحدة، ليرد عليه بالدقيقة ذاتها بأنّ الطلب سيتحقق، ويضع في المنشن حساب ذاك المطعم الذي ردّ فوراً بتنفيذ الطلب، عندما انبهر ديفيد وتساءل: «كيف فعلتها؟» قال بتواضع: «لأنني العمدة الذي تحتاجه المدينة وليس الذي تستحقه»!

ربما لا تستحقه فعلاً، فخلال فترة إدارته التي وصلت لخمس سنوات الآن تحوّلت مدينة كالغاري، والتي كان أول استيطانٍ لها عام 1875 من قبل حرس الجبال لحماية تجارة الفرو، لتصبح حسب تصنيف مجلة فوربز الشهيرة في المرتبة الأولى لعواصم المستقبل.

وتُختار أفضل مدينة عالمية صديقة للبيئة عام 2010 وثالث أفضل مدينة عالمياً في النمو والازدهار والثالثة أيضاً بين 405 مدن كبيرة في العالم لجودة الحياة عام 2012 والتاسعة عالمياً كأفضل وجهة سياحية وأيضاً كأقوى تنمية اقتصادية عام 2013.

والخامسة عالمياً كمدينة رياضية، واختيرت لتكون العاصمة الثقافية لكندا فضلاً عن كونها الأولى على مستوى القارة الأميركية في تحقيق العائد على الاستثمار، والمدينة الذكية الثالثة على مستوى كندا، كما أصبحت الأولى كندياً في إنفاق السياّح وكأفضل مدينة لتنشئة الأطفال.

وبها أكبر نظام مماشي في العالم بمسارات تزيد على 700 كيلومتر تخترق قرابة 500 حديقة ومتنزّه، دون أن ننسى أّنها المدينة الأنظف في العالم ومن أكثرها أماناً، وأصبح بإمكان ساكنيها الحصول على العلاج خلال ساعة بالكثير من أي مستوصف وبأي ساعة طيلة أيام السنة ومجاناً!

لتصبح المدينة عظيمة تحتاج لأشخاص عظماء من طينة ناهيد قربان نينشي، العمدة 36 لكالغاري والذي لم يمنعه كونه مسلماً من أن يمر بأغلب رياض الأطفال في المدينة ليقرأ لهم من الأدبيات المسيحية قصة (الغرنش الذي سرق الكريسماس)، فهو يفتخر بأن مدينته عاصمةٌ للتسامح وتقبل الآخرين، فنسبة 25% من سكانها من الأجانب وبها 120 لغة يتحدثون بها وعشرات الأديان.

لكنه يرفض التصنيف بكل أشكاله العرقية والمذهبية والسياسية، وكأنه يتفق مع حاكم واشنطن السابق دان إيفانز القائل: «لا توجد مدارس للجمهوريين وشوارع للديمقراطيين، ولا يوجد سمك سالمون ليبرالي أو حدائق للمحافظين»، فتلك مزالق تسقط فيها المجتمعات الضحلة فكرياً ليزداد تمزّق نسيجها الداخلي!

ناهيد والذي لم ينجح في الترشح لمجلس المدينة عام 2004 لعدم معرفة الناس به، فغيّر أسلوبه الانتخابي عام 2010 وأسمى حملته «الثورة البنفسجية» ليميّز نفسه عن الليبراليين ولونهم الأحمر والمحافظين وشعارهم الأزرق، واعتمد بشكلٍ شبه كامل على وسائل التواصل الاجتماعي وما يسمى بتسويق حرب العصابات Guerrilla Marketing لتغطية فجوة ضعف الإمكانيات المالية بالابتكار في الترويج للفكرة ومعرفة مداخل التأثير على المجتمع ليكتسح منافسيه الأقوى مالياً ومجتمعياً!

لم يكن من أولئك الباحثين عن الكرسي والحصول على لقبٍ رنّان ثم ينام نومة أهل الكهف، بل بدأ بإطلاق المبادرات تلو الأخرى لرفع جودة الحياة بمدينته، فأطلق عام 2010 مبادرة للنقلة المؤسسية لمساءلة جميع القيادات والتأكد من توجيه جهودهم لتحسين نوعية وكمية الخدمات المقدمة للمجتمع المحلي .

وألزم الجميع بسؤال نفسه يومياً: «كيف أجعل ما أعمله هذا اليوم سبباً لجعل الحياة أفضل لسكان المدينة ومن يمارس الأعمال بها»، بعدها أطلق مبادرة «قص الشريط الأحمر» لتسهيل بدء الأعمال للتجار والمستثمرين بالمدينة بتخصيص وحدة تنظيمية لاستقبال الاقتراحات والمبادرات من مسؤولي المدينة ومزاولي الأعمال بها والتي وفّرت ما مقداره 33.000 ساعة عمل وأكثر من مليون دولار كإنتاجية.

ثم كانت المرحلة الجديدة من المبادرة بطلب الإفادة من سكان المدينة عن كيفية جعل الخدمات أسهل لهم والسؤال هنا للاستجابة الفعلية والتنفيذ وليس للفرقعة الإعلامية والتلميع الفارغ، ثم أطلق برنامج «3 أشياء من أجل مدينتك» شجّع فيها السكان لأخذ المبادرة بعمل 3 أشياء لتحسين هيئة وخدمات الحي الذي يسكن فيه كلٌ منهم .

وخرجت تلك الروح في أجمل صورها في تسابق المتطوعين خلال فيضان ألبيرتا المدمر والذي جاوزت خسائره المليارات الستة لمساعدة جيرانهم وقاطني الأحياء المجاورة، هنا يصنع القادة ثقافة إيجابية ملهمة!

عام 2013 أطلق مبادرة «تكفي الجميع» لمساعدة الذين يتوقع دخولهم في حيز الفقر بحلول عام 2025 ومنحهم الفرص للوصول للموارد الضرورية والتكامل مع المجتمع المحلي، ومبادرة «السكن أولاً» لإنهاء مشكلة المشردين بحلول عام 2018، وفي السياق ذاته يؤكد ناهيد بأنه لا يتردد لحظة بتبني أي فكرة ناجحة يراها في مدنٍ ناجحة، تماماً كتبنّي مبادرة Vision Zero التي أطلقها مايكل بلومبيرغ عمدة نيويورك السابق لإنهاء العنف والقتل من شوارع المدينة.

يتحدث ناهيد كثيراً في تسويقه غير المباشر عن كالغاري بأنّه آتٍ من مدينةٍ غنية بالفنون والثقافات المتنوعة والعمارة المميزة والطبيعة الساحرة والمجتمع المرحب بالآخرين، لا يتحدث عن الجوائز مجهولة المصدر.

فهو يهتم بتسويق الـمُنتَج وليس تسويق الإجراء الداخلي الذي لا يهم العميل لا من قريب ولا من بعيد، وعندما يتحدّث عن تنويع الاقتصاد فلا يعني ذلك أن تختار الحكومة القطاعات الفائزة وتستثني القطاعات الضعيفة ولكن بأن تستثمر أكثر في التعليم على مراحله كافة وبأن تواصل تطوير بيئة شديدة الجاذبية لمزاولة الأعمال لديها.

ناهيد الذي اختير أفضل عمدة في العالم عام 2014 مثال للقيادة المبادرة عالية الأداء والتي لا تتوقف عن تطوير سيناريوهات استباقية للمستقبل، فالمدن لا تبني نفسها ولكنها تحتاج عقليات جبّارة لتقارع بها منافساتها من المدن، همّها في كيفية جعل الغد أجمل من الحاضر الجميل، غدٌ تُزيّنه المبادرات الخلّاقة لا شهادات الجوائز البالية!

Email