خلف الزجاج

ت + ت - الحجم الطبيعي

يكاد لا يخلو فيلم أو رواية شهيرة من ذلك الجانب الشرس للفقر، وتأثيره القاسي في البشر والمجتمعات، وغالباً ما يكون ذلك عبر مشهدين رئيسين، الأول الأم أو الأب الذي يرتكب جريمة أو جنحة لإطعام أولادهما، والمشهد الثاني، أن نرى ذلك الطفل متسخ الوجه وأشعث الشعر بملابسه الممزقة المضمخة بخطوط الأوساخ وهو يحملق من خلف زجاج أحد المطاعم الراقية، وينتظر أن يعطف عليه الزبائن فيرمونه بقطعة لحم أو كسرة خبز.

مشاهد وحكايات استهلكت، وما زالت تؤثر فينا، لأنها ذات بعد إنساني عميق، وقد اشُتهِر عن بعض الأدباء، أمثال تشارلز ديكنز في معظم قصصه، وفي مقدمتها رواية «مدينتين»، حيث يستطيع الوعي أن يحارب الفقر، وقصة «أوليفر تويست»، التي أظهرت آفة الفقر ومحنته التي تنهك الشباب والمجتمعات، وغيرها.

وهو ذات المؤلف الذي خاض محنته الشخصية، بتركه المدرسة ليعمل في مصنع لتلميع الأحذية، بعد غياب والده السجين، وقد حولته إلى مؤلف مبدع، يدافع عن الفقراء، ويسهم في رفع الوعي بأهمية محاربة الفقر، ودعم الشباب الفقراء للنهوض بالمجتمعات. وكذلك سيد الفقراء ومنصفهم وضحيتهم في ذات الوقت، جان فالجان، بطل رواية «البؤساء» للكاتب فيكتور هوجو..

وقد سجن لمدة 19 سنة، وتروى قصة سجنه، بأنه كان يعيش مع أخته وزوجها وأولادها، وعندما توفي زوج أخته، قام هو بأخذ مكانه، وصار يوفر لهم قوت عيشهم، وفي أحد الأيام انقطع عنهم الطعام، فقام بسرقة رغيف خبز، فأمسكت به الشرطة.

الفقر هو سيد الألم وحاضنته، يقود ضحاياه إلى العنف والجريمة والجنح بلا رحمة، يقودهم من ألم إلى آخر أكثر عمقاً وإيلاماً وعبثية، فالجوع ليس ألم الأمعاء أو صداع الرأس وقت الظهيرة، أو هزال في الجسم في المساء فحسب، إنما هو ألم نابض في الروح، وناخر في النفس والعقل، وقاتل للقيم، أولها قيمة الإنسان لنفسه.

ولذلك، فإن أكثر الروايات والمشاهد السينمائية خلوداً، تلك التي تتحدث عن تداعيات الفقر وتأثيره في سلوك المجتمعات، كصراع بين الرذيلة والفضيلة معاً، ومحرك لهما في اتجاهين متناقضين، كما هو الحال عند جان فالجان. وهنا، يكون الألم مضاعفاً وعميقاً عند الضحية ذاته، كما هو الحال عند القارئ أو المشاهد. وقد صدق غاندي حينما قال: «الفقر هو أسوأ أنواع العنف».

ارتأيت أن أذكر دواعي كتابتي عن الفقر، واستحضاري لمشهد الطفل الجائع. وقد توحدت مع ذلك الطفل، وآلمتني المفارقة، وهي أنني قبل أيام، سال لعابي وجحظت عيناي حتى خرجت من رأسي، إذ وقفت خلف الزجاج وأنا أحملق في ضالتي. اقتربت كثيراً كي أتأملها، ورأيت فيها حلمي وطموحي، لم تؤلمني أمعائي بقدر ما خفق قلبي.

لقد كانت ساعة يد فخمة باهظة الثمن، معروضة بكل أناقة في أحد محال المجوهرات، اقتربت فرأيت سعرها فذهلت، جال فكري بماذا يعادلها: شراء شقة فخمة، أو مزرعة مثمرة، أو ثمن سيارة فارهة، أو أقساط تعليم ولدي، أو تكلفة عملية جراحية لمرض مزمن أعجز صديقي المعدَم عن استبدال كليته الوحيدة.

استيقظت من حلمي الواقعي، واستحضرت تشارلز ديكنز وفيكتور هوجو، بالقدر الذي أدركت فيه، كم أنني مفلس وغارق في قروضي البنكية حتى أذنيّ. بسرعة تراجعت مرتعباً، وذهبت إلى أفخم المطاعم المجاورة، وطلبت أغلى الأطباق، وحملت معي ما زاد مما لذ وطاب، وألقيت به لأقرب قطة في الشارع.

 

Email