وجوه مهشّمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

على طريق عودته للمنزل، تسبّب أبو مزعل بحادث مروري، فتهشمت واجهة سيارته دون أن يصاب بأذى، وقُيدت بحقه مخالفة مرورية من الدرجة الأولى، عاد إلى منزله متصبباً عرقه متسخاً متشنّجاً، وكأنه خرج للتو من مصارعة كان الطرف المهزوم فيها.

دخل منزله متأخرا بساعتين عن موعده المعتاد، وجهه مكفهرٌ لا يعبّر إلا عن الغضب والاستياء، ذهبت الزوجة لترحب به وتهدئ من توتره الشديد، سألته بخوف وتردد: «كيف كان يومك يا سيدي»، زجرها بنظرة تُفصِح لها بأن تصمت ولا تتحدث وإلا أسكتها. تعاطفت معه حين أخبرها ولدها الصغير أن سيارة والده قد تهشمت حتى تغيّرت معالمها الأمامية.

كان يحدّق إلى سقف منزله بعينيه الفارغتين وفي مخيّلته كيف سيعيد سيارته إلى حالها وهي بلا تأمين، وثمة خسائر فادحة سيتحمّلها. انتفض ونهض فجأة حتى إنه أفزع أطفاله الثلاثة، وخرج مسرعاً إلى باب منزله، ليتأمل سيارته المهشمة ثانية، فأن يراها وقت الحادثة لا يعني أنه استوعب ما حدث. شاهد عدداً من الجيران أمام السيارة يتهامسون حول فداحة الخسارة، وأرسل بعضهم نظرات الشماتة والتشفّي.

تأمّل الرجل وتفحّص سيارته المهشمة، واستجمع تداعيات ذلك، فغداً سيركب الحافلة أو التاكسي، وينتظر الساعات تحت الشمس، ويتسابق مع الركاب للفوز بمقعد في الحافلة التي تعبق برائحة العرق الآدمي وبقايا قشور المكسرات. عاد إلى مقعده حاملاً سيارته المهشّمة وهو بين فكي كماشة، الأول: نظرات الشماتة تلك التي رمقه بها الجيران، والثاني: ذلك العناء المادي والمعنوي والجسدي الذي سيكابده طوال فترة إصلاح سيارته.

في تلك الأثناء، حضرت زوجته الطبق الذي يشتهيه، وهو السمك المحشو بالتوابل الحارة. اقتربت منه وقالت المائدة جاهزة يا أبو مِزْعِل. نهض إلى المغسلة لينظف يديه بالصابون، تأمّل وجهه المتشنج والغاضب، وقال لنفسه: اهدأ يا رجل؛ ما حدث قد حدث، أنت الآن في منزلك بين عائلتك.

جلس على رأس الطاولة، أزالت الزوجة الغطاء عن السمك المشوي الحار، فانبعثت رائحتها الزكية، ولكنه لم يشمّها حيث كان يحدق في أولاده، فكل شيء هنا يُذكّره بمصيبة حادث اليوم.

اقتربت منه الزوجة وسألته مرتعبة: كيف رائحته طيبة؟ فتح حاسة أنفه فجأة ليشم، ونظر إلى الطبق، وهو ذاته الذي اعتاد أن يغازل زوجته عندما تفاجئه به. نظر إلى السمك، ولم ير إلا سيارته مهشمة المقدمة، فلا فرق بين سيارته وهذا السمك بلا رأس، وتلك الكوسا أيضا مهشمة الحواف مقطوعة المقدمة ..

حيث غاب شكلها الأنيق، والليمونة المحمرة وقد قطع رأساها ليخرج منها عصيرها. نظر إلى الطبق وعيناه تلمعان منعكسة على حواف الطبق المعدني. ولم يجد إلا سيارته اللعينة قابعة في الطبق تحدق إليه بعيونها المفقوءة وتسخر منه عبر السمك والكوسا والليمون.

تذكر كلامه لنفسه أمام المرآة، وأن لغد أمره، وبدأ يأكل مجبراً، ونزع جزءاً من السمكة وأكلها، وجاء ليأكل ثانية، فلم يشاهد إلى سيارته وقد ازدادت خراباً، صرخ بأعلى صوته: هذا ليس ذات المذاق الذي تعودت على أكله، وقلب المائدة رأسا على عقب، فردت عليه زوجته قائلة:

يا أبو مزعل هذا الطبق هو ذاته، لا تغيير فيه! الزوج المهزوم من جيرانه، والمقهور من حادث السير، رفع يده، وضرب وجه زوجته. خرج مسرعاً من منزله، أما الأم المقهورة فصرخت على أطفالها وهشمت جميع سياراتهم الصغيرة، وأودعتهم غرفتهم يتقاتلون؛ يضرب الكبير الصغير، ويستقوي الصغير على الأصغر. هي حلقات الألم تتوالى كسلسلة الدومينو، والعاقل الحكيم هو وحده الذي يوقفها.

 

Email