بين المفترس والضحيّة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد نصف قرن من العمر المديد، المُسَيَّج بالجموح والجنون والتعدّي على الآخرين مادّياً ومعنويّاً، وحتى عاطفياً، على امتداد خمسين عاماً، حيث السباحة في طوفان الأنا والذات العمياء البغيضة، ماذا عسى أحدهم أن يختار كي يعتذر ويجثو على ركبتيه ويبكي طالباً السماح والمغفرة من أصدقاء غادروه، وأقارب ونساء وضحايا تجنبوه، وحتى أولئك الذي يتذكرهم جيداً، كيف مدوا أيديهم فخذلهم، فصافح نفسه وأهملهم، وطحن بذور المحبة والصداقة أسفل حذائه دون اعتبار أن ثمة خطأ إنساني فادح، وأن شر الأشرار أن تفترس بضراوة، وبما أوتيت من سلطة، ولا تمر فوق رأسك غيمة الرحمة أو الضمير.

بعد هذا العمر المليء بتعقيدات العلاقات والمفترسين والضحايا، وهذا النهش الانتهازي الغائر حتى العظم، الذي يقترفه الكثيرون من الخطائين مع ضحاياهم، وحتى في ما بينهم، كلنا نعيش، نحن الأحياء، في أتون النهش والألم، فإما أن تكون بلا خطايا تنهشك نواياك الحسنة بقدر ما ينهشك الخطاؤون، وإما أن تكون نهّاشاً بلا رحمة، لا ترى إلا أنت، وأنت وحدك فقط.

بعد هذا العمر، يتأمل ذلك المتهالك في حينه، والشرس المفترس المعتد بنفسه في سنوات الجموح والبغيضة الماضية، يتأمل ضحاياه الغائبين ويستحضرهم واحداً واحداً، ومكيدة مكيدة، قتيلاً قتيلاً، فينطوي المفترس الكهل على ذاته ويتكوّر في سريره وحيداً، يؤنسه دخان سيجارته المتصاعد، فهو الشيء الوحيد الذي يتحرك في غرفته الميتة، فالمنفضة متخمة بسجائره وفائضة برمادها، وكأس شرابه من بقايا الأمس الذي سيضيف عليه اليوم ويستكمله.

وذلك المفترس الجامح غدا وحيداً في غرفته الوحيدة، التي عجت بالفوضى في كل مكان، فتلك الجوارب مكررة الاستخدام بلونها الأسود، ورائحتها النفاثة، متناثرة في زوايا الغرفة، وكأنها علامات السلطة على منطقته، كما تفعل بعض الحيوانات، إذ تضع رائحتها على أشجار حدودها، وبنطال الجينز الوحيد لديه وقد سقط بحاملته من على الجدار، فتكوّر وتلوى كصاحبه بلا سيقان، هذا هو الوحيد بهذا الشعر الأشعث الملتوي على نهاياته، وتلك العيون التي صغرت واسود أسفلها، وعلتها حاجبان نتأت منها بعض شعيرات البياض، وقد استطالت وكأنها إشارات استسلام، لا تفهم إلا لغة العيون، وتلك الوجنتان اللتان ذابتا حتى تقيأت من تحتها عظم الوجه، والشارب الكثيف العشوائي المغبر بلون السجائر، وأظافر سوداء حوافها، وقطعة البيتزا التي تعفنت واخضرت على شباك الغرفة الصغير والوحيد. كل هذا في الخمسين من العمر، تلف المتغطرس المتقاعد، الفوضى وقسوة العمر وأرذله قبل أوانه، وبلا رحمة، إذ أصابه الجذام ينهش لحمه نسيجاً فنسيجاً، خلية فخلية.

يتأمل هذا المنكسر ولا يقوى حتى على الاعتذار أو الانتحار، فكلاهما بعيد المنال، الضحايا غائبون، لا يمكنه الوصول إليهم، وكذلك الموت غائب أيضاً، فليس لديه القدرة الجنونية الدافعة للتخلص من الأنا والذات، وإلغائها، وهذا ما يستحيل أن يفعله أبداً، وهو الكسير الآن، لكنه هو ذاته الذي رعرع نفسه وربّاها على الأخذ والانتهاز، واعتنق الغاية التي تبرر الوسيلة، وهو الشعار الذي جعل حياته بلدوزر لا يأبه بأحد، ولا يرحم سواه أياً كان.

في الخمسين من عمره، أكله الجذام، فتشوه الجسد وضمرت الأطراف وأغمضت العيون، واستيقظت الروح وارتقى الضمير في غير موعده، فكم خذلت الأنا والجسد في الشباب ضمير وروح صاحبها، ها هو الجسد وهذه الأنا لا تقوى على تلبية ذلك الضمير، الذي استيقظ في الخمسين من العمر في لجة المرض المزمن الذي لا يرحم، وتلك الروح التي جاءت لتعين خاذلها، فلم تقو لما أصابها من صدأ وعفن.

في الخمسين من العمر، جلس المنكسر يجتر خطاياه وضحاياه، ويسمع أنينه في صداهم، ويأكله جسده قليلاً قليلاً، لا يؤنسه سوى ذلك الدخان الرمادي، وكأنه خيمة السواد فوق رأسه، تنثر الموت المبكر وحيداً في الفراش، فهل ينتحر مبكراً، لا أظن ذلك.

Email