نلتقي أو لا نلتقي

ت + ت - الحجم الطبيعي

ليس أدمى على المرء من أن يقترب من واقع حلمه، ويرى شرنقته تتحول أمامه فراشة ترفرف وتنثر ظلالها ونورها وألوانها، وفجأة تغيب بجمالها وطيفها هباء منثوراً، وكأن شيئاً لم يكن، ولا أكثر عجزاً أن تنبت لأحدهم فجأة أجنحة الحب، ومع ذلك يكون قاصراً عن التحليق، فيسقط كسيراً مرتداً إلى حفرته مع كل محاولة.

وما أشد قسوة علينا بني البشر، المعذبون بالحب في الأرض، أن نرى أنفسنا عاجزين عن اقتناص الفرصة المفاجأة بين عاشقين محتملين، نكون أحد أطرافها أو حتى ضحاياها، فنتأخر أو نتقدم أو نرتبك، ونتردد فنبدو كالأغبياء التائهين السّذّج، فلا نحسن التواصل، إذ تَهْرُب منا عفويتنا، فلا نكون نحن الذين طالما روّضناهم في دَوَاخِلنا، فتخدعنا كَلمَاتنا وتعابيرنا، ونتجمّل بما ليس فينا، عَلّنَا أن نكون مُقنِعِين، ومقتنعين في ذات الوقت. هي مزيج اللحظة بين عاشقين محتملين، التي قد يستحيل الإمساك بها في معظم الأحيان.

أهي الصدفة أو القدر أم الاثنين معاً، أم هو نتاج الواقع الذي يخلق تلك اللحظة المركّبة الاستثنائية دائماً، والمبْهِجة أحياناً، كما نعتقد، أو أنه ذلك القدر الذي لا يأبه بضحاياه، إذ يحرمهم من فرصتهم في التشبث بمن قد يحبونهم. أم هو إيقاع يومياتنا المعقّدة التي تتنازعنا وتقودنا إلى احتمالات الحب والغضب والشك والتسامح والبغض والنسيان والانتقام والضعف والقوة والتأويل وغيرها، قد يكون أحد هذه الاحتمالات أو بعضها أو جميعها مجتمعة.

ولكن الأهم والأشد ألماً، أن الحلم في الغالب لم يكتمل، فالعاشق لم يستطع التحليق على الرغم من أجنحته، بقي كسير نفسه، يحاول هباءً في قسوة الوقت وهشاشة التوقيت وضيق الفرصة السانحة بين اثنين.

والفراشة الحلم التي خُلِقَت لتطير، إن أنت أمْسَكْت بها ذَبلَت ووَهِنَت، وإن أطلقتها غابت وتلاشت، هو استحقاق الطبيعة على الشرنقة بأن تنمو وتتلون وتتلوى وتَتَقوّى وتتَغذّى على نفسها بنفسها، وتنبش في بصيص النور الضيق فضائها الفسيح.

فإما أن تبقى حبيسة نسيجها وتموت أو تبزغ وتحلق عالياً.

وفي لحظة ما، أو مصادفة ما يقتنص العاشق المحظوظ فرصته، فيتوحد بظل فراشته العابرة، يهبط إن هي هبطت، ويصعد إن حَلّقَت، ويختفي معها إن غابت، وتبدأ رواية البداية أو بداية النهاية، فلا أحد يدري، فللفراشة عمرها بأيامها، وللفرصة والمصادفة قَسْوَتُها، فهي قصيرة كبَرْق النهار الخجول بين عاشقين غريبين، لا يُرى ولا يُضيء، فإما أن تتوقف وتمسك بذلك الضوء في قلبك بكل ما أوتيت من قوة وشراسة إلى حد التطفل، وتبثه مطراً عذباً روى الأرض العطشى.

في الحديقة، في المقهى، في مطعم المأكولات السريعة، أو في هذا الممر الطويل في أروقة الجامعة المزدحم بالطلاب والطالبات، أو هذا الرصيف المخصص للمشاة الذاهبين لأعمالهم كل صباح، أو هذا الحد الفاصل الممتد بين شارعين، أو هذا المصعد الكهربائي المكتظ براكبيه، أو هذا المِضمار الدائري، حيث يتريض الجميع، أو على تلك الدراجة الهوائية، حيث تتصادف العيون الخائفة من التصادم، تولد اللحظة الجميلة، فتطحنها العجلات المسرعة، أو تدوسها الأحذية الرياضية، أو تلكزها الخطوات المسرعة، فيعود الزمن إلى زمنه، والمكان إلى مكانه، والساعة إلى دقائقها، وتبقى في النفوس نشوة اللحظة العابرة، والصدفة السانحة الممتنعة.

وبالفقدان وحده نتذكر دائماً أن للصدفة ضحاياها الكثر من العشاق المحتملين المسرعين، فهي تمنحهم الأمل، وهي تمنعه عنهم إذا لم يستحقوها أو حتى خذلوها. وقلة هم من أمسكوا بها وخلّدوها، قد يكونون مهرة في اقتناص الفرص، وقد يكونون من ذوي الجرأة أو حتى الوقاحة أو التحايل الأبيض، فيختلقون الأعذار والأسئلة والسيناريوهات بأسئلتهم الغبية، فقط، ليمسكوا ببرق الصدفة، ويضيئون به فضاءهم، فيشع وينير فيهم، على الرغم من ضوء النهار، فيطول الوقت بما يسمح لكليهما التعارف والتواصل وترويض الفرصة.

قلة من يحالفهم الحظ، فيتحكمون بالصدفة، ولكن في الغالب، يبدو أن معشر الرجال العشاق أغبياء أو متحايلون، أو حتى انتهازيون، إذا لا يحسنون التصرف، فللمرأة مجسّاتها وحواسّها، لا يُدرِكُها إلا عندما يخيب أمله وتَتَعثر خطواته باتجاهها، فيقول يا ليتني كنت قلت كذا، يا ليتني لم أسألها عن مكان عملها، أو عن جنسيتها، أو عن المركز التجاري القريب من المكان الذي ادعى أنه لا يعرفه، وهو أحد رواده الدائمين.

فإما أن تكون غبياً متهوّراً فاشلاً، تجرّ أذيال هزيمتك أمام امرأة، لأن «دمك ثقيل ودبق»، أو تكون حاذقاً سريعاً خفيفاً، يدفعك الحب والوضوح وخفقات قلبك، أو خائباً تتحسّر على فرصة العشق الضائع، فتعيش مع ذاكرة الجمال المفقود، إلى أن تحل عليك مصادفة أخرى، ربما تكون قادراً على ترويضها، وتدرك حينها أن تكون أنت كما أنت، حتى تتحول المصادفة بينكما إلى فرصة سانحة، وإلى عشق محتمل.

فقد تكون إحداهن تشع عيونها ذكاء عابرة أمامك، وأنت عادي بسيط، تبعث بإشارات الثقة والود والاهتمام والمحبة بنظرتك الصادقة، فوحده الاهتمام والتعبير العفوي، يكون قادراً على اختراق زمن اللحظة العابرة، وتحويل بريقها القصير الخجول إلى كلمة «حتماً نلتقي قريباً»، وسواء روضت اللحظة أم لا، احتفظ بساعة يدك، فالزمن لا يتوقف، والتوقيت هو التأثير المطلق له، حتماً ستتفتح شرنقة ما في زمن ما بتوقيت ما وأنت هناك، فافتح قلبك دون وجل، فلكل فراشة جمالها الهش، لكنه خالد في حينه.

Email