ضعف المشاركة وأولويات المصريين

في ظل ظروف وتوازنات معينة ظهرت إلى العلن عقب الثورة المصرية، سارع نظام ما بعد 25 يناير عام 2011 إلى اللجوء إلى الاستفتاءات والانتخابات، ورغم أن الديمقراطية والتعددية، كانت من بين أهداف الثورة، إلا أن الذهاب مبكراً إلى الاستفتاءات والانتخابات، قبل أن تحقق الثورة بعض أهدافها وترسخ قواعد جديدة للممارسة السياسية، قد أضر بالثورة والثوار والأحزاب الجديدة التي نشأت بعد الثورة، والقوى السياسية المدنية.

حيث عمقت هذه الانتخابات التقسيم في صفوف الثوار والمواطنين والقوى السياسية التي ساندت الثورة وشاركت فيها، ذلك أن الانتخابات آلية لها أساليبها وقواعدها ومرتكزاتها التي تقلص مساحة الفعل الثوري، ولا يمتلك الثوار المعرفة الكافية بهذه القواعد، ومن الطبيعي أن يفوز فيها المحترفون والأكثر تنظيماً والأعز نفراً ومالاً، كما أن الانتخابات في غالب الأحوال، قد لا تأتي بالأفضل والأكفأ، بل تأتي بالأكثر تنظيماً وإنفاقاً، والأكثر دراية بقواعد وحرفية الانتخابات، وقد جاءت هذه الانتخابات التي جرت مبكراً، بالإخوان المسلمين وحلفائهم، وتم تهميش الثوار والقوى والأحزاب المدنية.

لا تنفصل هذه المقدمة وهذه التذكرة، عن انتخابات الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية، والتي جاءت نسبة المشاركة فيها بـ 26.59 % من الذين لهم حق الانتخاب، وهي النسبة التي حظيت بالعديد من التأويلات والتفسيرات التي حاولت تفهم عدم مشاركة جموع المصريين الغالبة في هذه الانتخابات.

والمؤكد أن نسبة المشاركة المتدنية، مقارنة بمثيلاتها في 2012 و2011، جديرة بالتأمل والتمعن حول دوافعها، وتتعلق هذه الدوافع في تقديري، بطبيعة مناخ العملية الانتخابية التي جرت، وخبرة المصريين بعد 25 يناير مع الانتخابات.

كانت انتخابات الجولة الأولى غير تنافسية، وخلت من وجود أصوات معارضة وناقدة، وتركزت فاعلياتها في تأييد الرئيس وتأكيد اقتراب المرشحين منه، بل وتنافسوا في ذلك، وقد يكون الرئيس جديراً بهذا التأييد، ولكن الأمر من وجهة النظر الديمقراطية، لا يفضي إلى انتخابات تنافسية، أو يمكن اعتبارها جزءاً من العملية الديمقراطية، لأن هذه الأخيرة تعني تعددية في الرؤى والتصورات، ووجود تصورات معارضة.

أما في ما يتعلق بخبرة المصريين مع الانتخابات بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، ففي تقديري أن هذه الخبرة قد لعبت دوراً حاسماً في إضعاف نسبة المشاركة والإقبال على هذه الانتخابات، وذلك من زاويتين، الأولى، أن لدى المصريين تخوف من هذه الانتخابات، بل وتوجس من أن تأتي هذه الانتخابات بالوجوه القديمة، التي تنتمي إلى نظام مبارك.

خاصة أن النظام الفردي الذي يحظي بغالبية المقاعد، يسمح لأولئك وهؤلاء من ذوي الثروات والقدرة على الإنفاق والدعاية من أنصار النظام القديم، بالدخول مجدداً إلى حلبة الانتخابات، والحال، أن غالبية المصريين بوعيهم وذكائهم وخبرتهم، قد حجبوا تأييدهم لهؤلاء، ولم يرغبوا أن يكونوا طرفاً مشاركاً في تصعيد نواب لا يثقون فيهم، وينتمون في نظرهم لنظام تسبب في خراب البلاد والعباد.

من ناحية ثانية، فإن لدى المصريين خبرة مريرة في انتخابات عام 2012، فقد منحوا أصواتهم للإخوان المسلمين وحلفائهم، بدعوي منحهم فرصة، وبأنهم ظلموا تاريخياً، وكانت الكارثة الُمرة، والتي عانوا من مراراتها حتى الآن، ومن ثم، فإن المصريين يتوخون الحذر إزاء الانتخابات، ويفكرون ألف مرة قبل الإدلاء بأصواتهم، ولا يرغبون مرة أخرى أن يسهموا في تصعيد أنصار النظام القديم.

وهذه التجربة الانتخابية في عام 2012، والتي ترتب عليها صعود الإخوان المسلمين، انتهت بثورتهم في الثلاثين من يونيو ضد الإخوان، ودعم الجيش لهذه الثورة، ووضع خريطة الطريق.

حرص المصريون خلال الجولة الأولى للانتخابات، على توجيه عدد من الرسائل لمن يهمه الأمر، للدولة والأحزاب والقوى السياسية المختلفة، أول هذه الرسائل، هي حرصهم على تجنب عودة رموز النظام القديم وأنصاره، وثانيها، أن وعي المصريين قد اختلف جذرياً عن ذي قبل، وإن كان ثمة مكاسب ملموسة للثورة في موجتيها حتى الآن.

فإن ذلك يتمثل في حضور اختيارات المصريين في الشأن العام، حتى لو اتخذ ذلك الحضور صورة العزوف عن المشاركة، أما ثالث هذه الرسائل، فإن غالبية المصريين في انتظار ما هو سابق على الانتخابات، ولاحق لها، أي مطالبهم في الحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية.