«يوريكا» الدّفِيْن والمُهْمَل

ت + ت - الحجم الطبيعي

قد يَحيَا المرْء ويموت وينتهي بكامل الصّمْت والهُدوء، ويا دنيا ما دخلك لا شر ولا خير ولا حتى المشتبهات بينهما، فيولد المرْء حِيَاديّا، ويَحيا هامشيّا، ويموت رماديّا، لا أبيَض فيه ولا أسوَد، ولا بصَمَات خلّفَتها خطاه أو أثَر حيٍّ سوى ذريته وما يكفي منهم لدفنه في الغياب الأبدي.

وقد يَحدُث أن أحدهم شاعراً، أو رسّاماً، أو مبدعاً موهوباً ماهراً في أمر ما، ولكن ما أهمية تلك المهارة المغمورة إذا لم يعرفها الناس، وما ألق هذا الإبداع إذا لم يُبْحر فيه صاحبه ويمخر عبابه، فما جَمَال تلك الجوهرة الثمينة إذا لم يصادفها المهاجر دفينة بين الصخور فينتزعها ويعلقها على عنق حبيبته.

سألني أحد الفنانين التشكيليين، وهو رسام تشكيليٌّ معروف، عندما تناقشنا حول إحدى اللوحات الفنية: «هل أنت رسام تشكيلي»، أجبته: بلا ونعم، أو كما يحلو للبعض بمصطلح «لعم»، فلم أجرب نفسي بعد. فأنا ما زلت هامشي وحيادي في هذا المجال من ناحية الممارسة والتطبيق. فأجابني: إذا أنت لست برسّام تشكيلي، ما دام أنك لم تمارسها، فقلت له من يدري، فما زال للعمر بقية؟ وقلت له: لكي نتفق على إجابة، فأنا لست رسّاماً تشكيلياً حتى هذه اللحظة.

فضحك وقال لي ابدأ ولا تتأخر فدائما للعمر بقيته وللجمال فسحته ما دُمْنا نتنفس، ولكن حذّرني بأن العمر قصير وغائب ومُهْمَل إذا لم نعشه والجمال دفين وحزين إذا لم نستخرجه من أعماقنا.

في صباح اليوم التالي، قررت أن لا أعيش هامشياًّ أو رماديّاً أو حِياديّاً، اصطحبت صديقي المشاكس بسيارتي واشترينا الألوان وأدوات الرسم وعددا من الكتب لتعَلُّم تقنيات وأساليب الرسم ومدارسها، وكذلك عددا من الألواح الخشبية والكانفاس والقماش والورقية، ومِنْصَبٌ لرسم اللوحات، وغيرها من الأدوات التي تشعر الفنان بالمساندة والثقة. فقد عقدت العزم أن أخوض غمار الإبداع وأن تكون لخطواتي في حياة الرسم واثقة وذات أثر، فذرّيتي وحدها لا تكفي لأن أبقي أثري، على الرغم من أنهم خير من سيترفق بي عند غيابي الأبدي ودفن آخر أثر لي، وقد أشكرهم مسبقاً على ذلك.

وأثناء عودتي مبتهجا إلى منزلي وسيّارتي ممتلئة بعالم الفن وأدواته، تقنيات، مدارس، مشاهير، مفاهيم، وألوان بكامل أطيافها وأنواعها، أنزلت صديقي عند منزله وقد وَعَدني أن سوف يجند علاقاته ويوظف مهاراته في الترويج والتسويق لأي عَمَل فنيٍّ أقوم به، وقال لي مازحاً ستكون فناناً حاضراً لا تَغِيب. وفي اللحظة التي نزل فيها صديقي الناقد الفنان وغاب عنّي، صَرَخت بأعلى صوتي، ياااااهووو، لقد وجدّتها، «يوريكا» وهي صرخة أرخميدس التي أسست لنظريات علوم الطفو وعلاقة الأحجام بالسوائل. فمن يدري قد أكتشف نفسي في غمْرة هذه الألوان وأطفو عليها فناناً تشكيلياً أضيف إلى نفسي عمراً جديداً وفسحة لذلك الجمال المفقود في داخلي الذي حدثني عنه صديقي المخلص.

قدت سيارتي مبتهجاً ومسرعاً، ومخالفاً قواعد المرور متصفحاً بعض الكتب الفنية حول تقنيات الرسم، فعين على الكتاب وعين على الطريق، وقبل أن أصل بيتي بأمتار تسببت في حادث كنت فيه المخطئ، تهشمت سيارتي وتشكلت واجهتها لدرجة أن معالمها الأصليّة اختفت، أنزلت كل ما في السيارة إلى البيت، وأودعت سيارتي في محل تصليح أجسام السيارات وصبغها. أصابني الشؤم من تلك الحادثة، وأوّلْت إلى أن الحادث سببه الفن التشكيلي والفنانين والأصباغ، فتأجلت شهيتي لاكتشاف ذاتي إلى ما بعد إصلاح سيارتي المتهشمة.

عند باب كراج إصلاح السيارات المليء بالأصباغ، ورائحتها النفّاذة، وأصوات الصنفرة والطّرْق على الحديد، وحركة العمال الفنيّين الواثقين من أعمالهم بملابسهم الكاملة التي تراكمت عليها الألوان حتى تيبّست واستقامت، وقفت مدهوشا أنظر على لوح خشب مهمل في أحد الزوايا وقد طافت على جوانبه الألوان، وتشكلت فيه مساحات لونية وكتل ضوئية أنارته بفضاءات وتشكيلات لا متناهية، تَعَمّقت فيها وتفاعلت معها بطريقة مذهلة أدهشتني، فاقتربت لأتأملها أكثر، فرأيت بصمة يدٍ صغيرة على إحدى الزوايا وقد تغطت بألوان أخرى ولم يبْقَ سوى بعض من الكف وثلاث أصابع صغيرة.

سألت أحد العمال لمن هذه اللوحة، فضحك وقال إنها مجرد لوح لتنظيف الألوان من أدوات دهن السيارات، ولكنه مخصص لأحد العاملين وهو الوحيد الذي يستخدمه، وقد منعه على غيره، طلبت مقابلة العامل، فجيء بصبي متشح بالألوان والزيوت لم يتجاوز عمره 15 عاماً، حيث أكد لي أنه يعتز بهذا اللوح الخشبي الملون لأنه يؤرخ لألوان السيارات التي صبغها ودهنها وصنفرها، لذا فهي سيرته الذاتية اللونية ويوميات عمله في هذا الكراج.

في اليوم التالي، عدت إليه حاملاً حزمة الألوان والأدوات الفنية، والكتب، والألواح بأنواعها كاملة، التي اشتريتها قبل أيام وأهديته إياها، وقلت له: لك من العمر طوله وعرضه فانبش عن جواهرك خارج هذا الكراج، أخذت سيارتي التي أصلحها الفتى، فلحقني مسرعاً، وأهداني لوحته المهملة؛ أطّرتها وعلّقتها في صدر منزلي، فكانت موضوعاً للنقد الفني، وأثبت لهم أن ثمة الكثير من الجواهر الدفينة، تحتاج إلى النبش، والعديد من المواهب في انتظار من ينفض عنها غبارها. ولكن السؤال الأهم، من يصنع فرصة الاكتشاف، هل هي العزيمة، الصدفة، العلاقات، المال، الجمال، النفوذ؟ قد تكون أحدها أو بعضها، أو كلها مجتمعة، لكن، وحدها، الموهبة الحقيقية قادرة على استدامة الفرصة ليكتشف الإنسان سرّه ويبقي على أثره نابضاً بالخُطى والحركة والحياة حتى بعد مماته.

Email