مُتَسَكّعٌ أمْ مُثَقّف

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل سنوات، أشهرت في وجه صديقي مقالاً قديماً يَحكي عن المثقفين الجدد، والذين صنفتهم حينذاك تحت مسمى «المثقف الببليوغرافي»،..

واتهمته ساخراً بأنه لا يعرف من الكتب إلا عناوينها وموضوعاتها وأسماء مؤلفيها وسيرهم الذاتية، فلا قراءة ولا تعمّق ولا حتى ذاكرة، وإنما معرفة بيانات أساسية سطحية عن المنتج الفكري، وقد دافع عن نفسه بقوة، بأنه قارئ نَهمِ، وأنه لا يجف له بنان جراء ترطيبه لتقليب الصفحات، وأن عيناه أصابها الجفاف من القراءة دون إغماض.

بل وأكثر من ذلك، أن زوجته تعتبر مكتبة بيته ضُرَّتها اللئيمة التي لا تَهرَم أو تُهزَم، وأن المراجع والكتب فيها عفاريت مشاكسة. فغالباً ما ينام حاضناً أحد الكتب والمراجع والروايات. ضحكنا جراء مبالغته في الدفاع عن نفسه، والتي لا تخلو من العمق في وصف الحالة، وتعاطفنا مع الزوجة التي لم يوفيها حقها، ولم يوفِ الكتاب حقه، فلم يفهم منه إلا القليل. واعتقدت جازماً وضاحكاً، أن صديقي يرفل ويتَقَمُّص لباس المثقف المدعي بالمعرفة.

وقد ذكرني في حينها، عندما قابلته قبل 12 عاماً، بذلك المتَسكّع الذي تَقَمَّص دور الإمبراطور في أحد أشهر الأفلام اليابانية «كاجيموشا»، من إخراج أكيرا كوروساوا عام 1980..

حيث يوضح الفيلم بسياق درامي بديع، كيف مات الإمبراطور الياباني، بينما الإمبراطورية تخوض أشرس الحروب مع إمبراطورية أخرى، ولا بد من شبيه للإمبراطور ليحل محله، يؤكدون من خلاله أن الإمبراطور الملهم ما زال على قيد الحياة، فترتفع معنويات المحاربين.

وقد جيء بذلك المتسكع الشبيه، وتم تدريبه على سلوكيات وعادات وجلسات وإيماءات وملامح تؤكد هيبة الإمبراطور المتوفى. وبالفعل، تقَمّص المتسكع الإمبراطور، فصار إمبراطوراً، ونسي أنه متسكّع، وبدت عليه الهيبة الحقيقية، لدرجة أن من نصّبوه أصابتهم الرّهبة بقدر ما أصابتهم الدهشة، واختلط عليهم الحال فصدقوه.

أما صديقي، فقد دافع عن نفسه كثيراً، وقال: إذا لم أقرأ ذات الكتب التي تقرأها أنت، فهذا لا يعني أنني جاهل أو «مثقف عناوين وسِيَر ذاتية». وعلى ما يبدو أن الأمر استفزه، فذهب فوراً وابتاع فيلم «كاجيموشا» عبر الإنترنت، وشاهده مرات، ليعرف أين وجه الشبه بين المتسكع مدعي الهيبة، وبين العصامي الذي يسعى إلى قوة المعرفة بالقراءة والعلم.

وبعد غياب أيام معدودة، جاءني صديقي ليخبرني أن كاجيموشا الإمبراطور لم يمت، بل بقي حيّاً، تنبض هيبته في قلب البديل الذي تقمّصه ونسي تسكعه، واستبدلها بالقوة والهيبة والجبروت، أما صديقي، وحسبما يقول: لم يتَقَمَّص دور المثقف والمفكر، لأن هذه «الهاوية السحيقة» التي «يصعدها» الجهلاء، وتتسبب بالشرخ العقلي والنفاق الذي يصيب صاحبه بالازدواجية والدونية..

وهي مسألة سهلة على السذج أشباه المثقفين الذين تعايشوا مع نفاقهم، وهي قمّة عالية يسعى إليها الصادقون العارفون لأنفسهم، ووافقني صديقي على أن الثقافة ليست تصَفّح كتب وعناوين وتراجم، أو تفاخر بشراء مجلدات أنيقة لتجميل صدور الصالونات الأدبية والتقاط الصور..

وإنما هي ما يتشرّبَه المرء كلمة فكلمة، ومعنى فمعنى، ويُقَطِّر ما رشح منها في الوجدان والذاكرة، لِتُكوّن مزيجاً يعين صاحبه على فهم الإنسان لنفسه بمعناه الإنساني الكبير، غير ذلك، فإن الادعاء الثقافي هو نوع من النفاق الاجتماعي، وإن «كل منافق مريب».

نظرت في عيني صديقي الحانقتين والساخرتين كعادته، ووافقته رأيه، واتفق معي أن مكتبته تمثل الضرّة العنيدة لزوجته، إذ بالفعل، خبرته عبر سنوات أنه قارئ نهم وشرس، وما رأيت في حياتي هذا التطور في المعرفة والسلوك والتسارع في جني العلم، كما لمستها لدى صديقي، الذي أصبح إمبراطور نفسه بمعرفته التي لا تهدأ، وبحثه العلمي الذي لا يستكين..

فقد طوّع كل أدواته من أجل المعرفة والعلم، فأدار وقت يومياته بحنكة، وحدد الاهتمامات، وزاد الهمّة، لأن المفكر المثقف ليس مجرد إمبراطور يمكن تقَمُصه بالشكل والحركات والتقليد والمساحيق وإيماءات الغضب والرضى...

وإنما هو كتلة مُعقدة من البناء المركب النابض المشتعل والصارخ، الذي يقود صاحبه إلى فتح منافذ جديدة في شؤون الحياة الواسعة، وهي حالة لا يمكن ترويضها إلا بنتاج فكري وسلوكي يلبي رغبة صاحبها، فيطوّع المثقف الحقيقي سلوكه ليمارس مبادئه بلا ازدواجية أو نفاق أو ادعاء ومواربة.

أما المتقمّصون فسوف ينساهم التاريخ، إلا في أفلام خالدة مثل «كاجيموشا» العظيمة بحكمة الفكرة والمفكر والمخرج والمثقف، والذي لم يدركها صاحبها، لولا أن وعياً ما قد بَرَق في عينية بعد قراءة أو مشاهدة أو اختبار حدث ما في حياته.

 

Email