نحو نظام ثنائي القطبية

ت + ت - الحجم الطبيعي

ارتبط تطور النظام الدولي بظهور الأزمات الدولية، ودور القوى الكبرى في مواجهتها، وحلها وفق ما يمتلكه من إمكانات وقدرات عسكرية واقتصادية وسياسية، وهكذا انتقل هذا النظام من صيغة توازن القوى إلى صيغة القطبية الثنائية ثم صيغة القطبية الأحادية الأميركية، والتي بدأت في الانكماش مع صعود فاعلين دوليين مرشحين بقوة لمكانة القطب الدولي كالصين وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا.

كانت حرب الخليج الثانية مناسبة لتتويج الأحادية القطبية الأميركية من خلال إظهار الولايات قدرتها العسكرية والسياسية على تشكيل حلف دولي وعربي لتحرير الكويت، وقدرة الولايات المتحدة على استخدام مجلس الأمن لصالح تقنين الحملة العسكرية على العراق، ومنذ ذلك التاريخ عرف النظام الدولي الهيمنة الأميركية على مقدراته.

ترى هل من الممكن أن تقود الأزمة السورية بتفاعلاتها وأبعادها الإقليمية والدولية والمحلية والعربية، خاصة بعد التدخل الروسي العسكري، إلى نظام ثنائي القطبية؟ ربما تكون الإجابة عن هذا السؤال سابقة لأوانها نظراً لاختلاف الأزمة السورية عن الأزمة التي تبلورت عقب احتلال وغزو الكويت، ولأن روسيا لم تشكل حلفاً واسعاً، وربما لأن روسيا تعاني من العقوبات المفروضة من الغرب بسبب موقفها من أوكرانيا، وهي لا تزال بعيدة عن شغل المكانة القطبية المأمولة بسبب تأزم الاقتصاد وانخفاض قيمة العملة الروسية والعقوبات الغربية.

ومع ذلك فإن التدخل العسكري الروسي في سوريا يضع تفاعلات الأزمة السورية في إطار جديد وقواعد جديدة، فهذا التدخل يعني أن روسيا لن تترك مصير سوريا لأميركا والغرب منفردين لأن مصالحها الاستراتيجية والسياسية في سوريا واضحة، وقد حظي هذا التدخل بمباركة رأس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وهو ما يضفي عليه مسحة من القداسة.

ولا شك أن التدخل الروسي في سوريا يعتمد على آلية مختلفة عن التدخل الإيراني، فالأول يعتمد على آلية التعامل الدولي أي تعامل الدول مع بعضها البعض، بعيداً عن الفسيفساء السورية العرقية المذهبية والدينية..

كما أنه رسمي ومعلن وصريح، بعكس التدخل الإيراني الذي يتخذ بعداً طائفياً وأهلياً، كما هو الحال فى لبنان واليمن والعراق. يتخذ التدخل الروسي شعار «مقاومة الإرهاب»، ويمتد ليطال أهدافاً أخرى من بينها محاربة الإرهاب القادم من الشيشان والقوقاز، فهؤلاء أياً كان عددهم يعتبرون احتياطياً إرهابياً يهدد الأمن القومي الروسي في حالة انتهاء الحرب وعودتهم إلى ديارهم.

وبعيداً عن هذه الأهداف، فإن الاحتمالات الممكنة قد يصعب حصرها سواء نتيجة للتدخل الروسي أو مضاعفات هذا التدخل على المشهد الراهن في سوريا، من الوارد أن تكون روسيا هدفاً للإرهاب في هذا الوقت، وأن ينشط إعلام الإرهابيين في جعل روسيا قبلة الإرهابيين وعدواً لهم بعد تدخلها ضدهم في سوريا، ويعيد هذا الاحتمال إلى الأذهان سيناريو أفغانستان..

حيث توافدت على هذا البلد عناصر إرهابية من كل البلدان لمحاربة السوفييت بعد تدخلهم في أفغانستان، بل قد يكون من المحتمل أن تتغاضى الولايات المتحدة والقوى الكبرى عن التدخل الروسي في سوريا رغم التصريحات المعلنة على أمل تورط روسيا في المستنقع السوري وإرهاقها.

ومن الممكن أن تنظر الولايات المتحدة للتدخل الروسي استناداً إلى أنه قد يوجه ضربات ناجعة للإرهابيين، وأن هذا التدخل قد ينجح فيما فشل فيه الأميركيون والتحالف الدولي.

وأخيراً، قد يخلق التدخل الروسي معطيات جديدة على الأرض تجعل التسوية ممكنة للأزمة السورية، فقد يخلق هذا التدخل توازناً جديداً للقوى يرجح كفة التسوية السياسية ويمهد للتفاوض على ضوء هذا التغير، تلك التسوية التي ينبغي أن تستهدف الحفاظ على الدولة السورية ووحدة الأراضي السورية والحؤول دون تفتيتها إلى دويلات طائفية ومذهبية وعرقية ودينية، قد تمثل خطراً داهماً على جيرانها.

إن الأزمة السورية بتعقيداتها وتفاعلاتها ومضاعفاتها الإقليمية والدولية تكاد تكون من أخطر الأزمات التي يواجهها المجتمع الدولي، خاصة بعد هذا العدد الكبير من القتلى والمصابين واللاجئين، وللأسف لم يمتلك المجتمع الدولي رؤية واضحة منذ البداية لحلها ووضع حد لها قبل تفاقم معاناة المدنيين.

 

 

Email