مَوْتٌ بِنَكْهَةِ الفَرَاوْلَة

ت + ت - الحجم الطبيعي

خَفِيفٌ، كَثِيفٌ، نَاعِمٌ، هَوَائيٌّ، مُرَفْرِفٌ، مٌحلِّقٌ، عَبِقٌ، ساكنٌ، مُتَحرّكٌ، مُرْتِفعٌ، عَطِرٌ، جَميلٌ، تشكيليٌ، مُتَجَدّدٌ، متَسَلّلٌ، لاصِقٌ، مُتسرّبٌ، ولكنه خَانِقٌ وخَارِقٌ، هكذا رائحته الزّكيّة التي تحوم فوق الجميع كغيمة شتاء سوداء تُمزّقها وتبعثرها موجات الهواء البارد المنبعث من المكيّفات والمراوح الهوائية فوق الرؤوس، فيخترق دخانها الأنوف عُنوةً، وتلتصق ذراتها أسفل الجفون خلسة. أكنت مرتاداً مدمناً للشيشة، زائراً عابراً، مدخّناً أو غير مدخن، تَراك ضاراً ومُتَضرّراً.

فإذا كان المُدخّن قد أخذ قراره بالتغاضي عن الضرر، وغير المدخن تَحَمّل هذا الأثر السلبي جرّاء استنشاق الدخان المنكّه، فهذا قرارهم، هم، كزبون مقيم أو كعابر سبيل على هذا المقهى المدجج بالجمر والنار والدخان المغلق الغائم العابق بالأنفاس المكبوتة الزافرة على أقصاها. فيمكنك التحكم بقرار البقاء أو المغادرة، وكبالغ يمكنك الاستمرار في التدخين أو التوقف عنه، فمفاتيح الوعي مازالت متاحة للكبار. ولكن أشد ما يؤلم أن نجد وعاء الوعي قد صدأت مفاصله وأصبحت مفاتيحه عاجزة عن فتح أبواب الإدراك وتمييز الضرر.

منذ يومين، دعاني صديقي المستشار الاستراتيجي محمد خلفان الظاهري لتناول العشاء في أحد مطاعم ومقاهي المدينة في أحد المراكز التجارية، وقد جئنا جوعى ومستعدين لملء بطوننا. وبعد دقائق تقاطر مناصرو الشيشة والمدخنون شيباً وشباباً فرادى وجماعات، نساء ورجالاً. في أقل من نصف ساعة بعد جلوسنا وأصبح خانقاً، ولكننا جوعى، ولا بد أن نأكل ما طلبناه من قائمة ما لذ وطاب.

وبعد حديثنا وتَذَمّرنا وتأففنا الهامس من تلوث المكان، ولم نبد أي إشارة بذلك لأننا نتحمل قرارنا بالمجيء إلى هذا المطعم المُدَخَّن بزبائنه. لفت انتظارنا تلك المرأة الحامل وصديقتها الجميلة وابنتها الرضيعة وكلاهما على ما يبدو على قدر عال من التعليم، وقد جلستا على أريكة عند باب المدخل وانهمكت إحداهما بالحديث عبر هاتفها، في انتظار أحد ما..

وقدر صديقي الاستراتيجي أن لدى المرأتين حرصاً شديداً على عدم الدخول لهذا المكان الموبوء الضار بالصحة العامة، فما بالك بطفلها الرضيع. وفي غالب ظنّنا أنهما بانتظار زوجيهما المدخنين في المقهى حتى ينهيان النفس الأخير، كلام مقنع إذا اعتبرنا أن ثمة طاولات فارغة ومقاعد تنتظر ضحاياها.

وبعد ثوان من انتهاء مكالمة المرأة أم الرضيع، بالفعل نهض أحدهم من كرسيه الخشبي من الطاولة الكبيرة بجوارنا وذهب إليهم، فبدا على صديقي علامات الثقة والفراسة. بعد التحية والقُبَل والترحيب ومداعبة الرضيع وتقبيله مراراً وتكراراً، نظرت وصديقي إلى الطاولة ذات الثمان كراسي، وحدّقنا إلى بعضنا..

وقلت له: هل يُعقل، لا يمكن!!!، فرد علي: كل شيء ممكن ناظراً بطرف عينه إلى الطاولة الممتدة التي لفها ضباب الدخان، وقد جلس عليها ثلاثتهم، أو لنقل أربعتهم مع الطفلة، أو خامسهم مع الجنين المتكور الناتئ من بطن صديقة الأم. لحظات وامتلأت المقاعد بأصدقائهم من أصحاب الكروش من الرجال..

ومن النساء الحاملات، وبدا عليهم الفرح والانشكاح والانبساط. فما رأيناه من الرجل من مجاملات اجتماعية في مداعبة وتقبيل الرضيع، تضاعفت مع زيادة عدد الرُضّع والأطفال المرافقين. أصابنا الجنون من هذا الغباء الصحي والاجتماعي، وشعرنا بالخجل من إفساد جمعتهم ولقائهم، سيّما وأنهم لا يدخنون الشيشة حتى هذه اللحظة.

بعد الاكتمال السريع لعدد الضيوف، وكأنهم على موعد محدد، وصلت كعكة عيد الميلاد بلون الشوكولاتة مزينة بالفراولة، وحبات العناب الأحمر، وعليها شمعة تنثر الشرر وتضيء ما تخفيه العتمة من دخان متصاعد يعبق بكثافة في المكان. الجميع غنى وصدح وسط الجميع: سنة حلوة يا جميل، هابي بيرثدي تويو.

واستل كل واحد منهم هديته وقدمها للصغيرة التي بدا عليها الذهول من هذه الوجوه المتوددة، وبالمقابل بدا على كلانا الذهول من هذا الفرح الجماعي الساذج وغير الصحي. لحظات قليلة، وهبطت ثماني أرجيلات مُسلّحَة بنكات وبأشكال وزينات مختلفة من «الدمار الشامل» ..

كما يحلو لصديقي تسميتها. فلم لا، فيجب أن تليق زينة الأرجيلة زينة ونكهاتها بهذه بمناسبة عيد الميلاد الأول للمولود الأول؛ ذاكرة وذكرى لا يجب أن تَمُرّ دون بهجة وفرح وتدخين، استل كل رجل وامرأة شيشته، وبدأوا في النفخ والزفير والضحك، والأطفال الدامعين المخنوقين في الأحضان والمُسَمّمِين المُلَوَّثين في البطون.

وبدوره، استل صديقي الاستراتيجي، الذي قال: إن أصعب أنواع الاستراتيجيات هي تلك التي تتعامل مع تغيير المفاهيم ونشر الوعي المستدام وتثبيته كسلوك قيمي طبيعي قابل للتوارث والحياة عبر الأجيال، فالقانون وحده لا يردع الجهلة. وبالرغم من رأيه الاستراتيجي حول الاستدامة والوعي والسلوك، استل صديقي هاتفه واتصل على الرقم المجاني المعني بخدمة المجتمع وحمايته، وأدى أمانته. وبدوري طلبت مدير المطعم، وزجرته بأن هذا مخالف للقانون. وبالفعل ودون ضجة أو جلبة غادروا ويلفهم الخجل.

Email