الحلم المستحيل

ت + ت - الحجم الطبيعي

قال لي أحد المنتجين العالميين في هوليوود الذي التقيت به في مدينة البتراء والذي جاء للتعرف على فرص الإنتاج السينمائي في الأردن، إن القطاع السينمائي بات أحد مؤشرات النجاح الاقتصادي، والمكانة الثقافية العالمية للبلدان المنتجة.

ولكن المذهل أن هذا المنتج الذي يدير شركة أفلام وإعلانات ومساهم كبير في عدد من مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب، قال لي إن قطاع السينما كان يولد حالة من الجنون الاجتماعي لدى بعض أفراد المجتمع في عمر ما في حياتهم، أما الآن فإن الإنترنت بمساندة السينما يدفع غالبية الناس إلى الجنون معظم سنين عمرهم.

استغربت من رأيه، وهو صاحب الخبرة الطويلة في هذا المجال، وسألته كيف ذلك، وإن في الكثير من الأفلام تطرح رؤى عميقة تسلط الضوء على قضايا إنسانية واجتماعية وبيئية، وهي صرخة تفتح الآذان وجرس يقرع العقل!! كيف ذلك وأن الإنترنت هي البوابة الكبيرة الرخيصة التي تساعد في بث وطرح الرؤى والإبداع على المستوى الفردي.

قال لي مبتسماً، ليس الأمر بهذه البساطة، وأجابني بسؤال، إذ قال لي هل في فترة ما في حياتك وقفت أمام المرآة وتأملت وجهك وحاجبيك وعينيك وملامحك وعرض كتفيك، وقمت بحركات تمثيلية متأثراً بممثل أو بمشهد سينمائي ما؟ أجبته بنعم، وهذا حال بعض أصدقائي عندما كنا في سن المراهقة نشاهد مراراً وتكراراً الصراع بين الخير والشر في أفلام الكراتية والكونغ فو الصينية والعاطفية الحزينة الهندية، وأفلام الانتقام والحب العربية المصرية والحركة والإثارة الأميركية.

فرد عليّ بقوله: «هكذا إذاً، في تلك اللحظة دفعت بك وبأصدقائك أن تحاكوا تلك القوة الخارقة التي تحاصركم عبر شاشات السينما والتلفاز فقط، وتضعكم أمام أنفسكم لتحاولوا أن تخترقوا حاجز الواقع والقدرات الطبيعية لبني البشر».

ومع الوقت أدرك الإنسان أن البشر لا يطيرون، ولا يصدون رصاصة باليد، وأن شخصاً واحداً لا يتغلب على مئة، وأنهم لا يتنفسون تحت الماء، ولا يقدرون على غير ذلك من المستحيلات الممكنة في عالم السينما الخرقاء البلهاء في واقعنا.

وغالباً ما يصاحب هذا الإدراك إحباط ينحدر إلى مستوى التصغير للذات المراهقة، فيحاول أن يعالج هذا الإحباط بالتماهي مع الممثل واحتراف مهنة التمثيل ليكون خارقاً ومشهوراً في الوقت نفسه.

ولكن سرعان ما تتبخر الأحلام لأن الفرص محدودة وثمة تحديات كبيرة قد تضاهي بالنسبة للبعض تحديات المرآة التي وقفوا أمامها خاسرين. وقد يصيب أحدهم الحظ وتزهر لديهم الموهبة ويساعدهم الشكل، فيكونوا نجوماً خارقين بعد أن كانوا هامشيين مهملين محبطين.

وكثيراً ما يمتد الحلم المستحيل ليطال خريجي الجامعات والشباب المهووسين والمفتونين بالشهرة إذ يقومون بالعمل نادلين في المقاهي التي يرتادها العاملون في قطاع السينما لعل الحظ «الخارق» يحالفهم، كما حالف جنيفر أنستون ومادونا وساندرا بولوك وجيمس فرانكو وغيرهم من الذين عملوا نادلين وهامشيين في شبابهم.

ولكن، لماذا تعمّقت حالة الهوس بالشهرة وزادت فترة الجنون وسعار النرجسية والأنا الهشة المتصاعدة، كما زاد عدد البشر المهووسون بهذا الحلم المستحيل عمّا كان عليه قبل عقود! قال لي وهو الخبير بشؤون الإنترنت أيضاً، إنها تكنولوجيا الاتصال السريع والسباق بين البشر الراغبين بالظهور والحضور والتميّز والشهرة، ومن جهة أخرى إنها كثافة وسهولة المشاهدة وحرية التحميل الإلكتروني الفردي، الأمر الذي خلق تحدياً جديداً ومستداماً لكل من يستخدم الإنترنت ويعرف أن المستحيل ليس مستحيلاً في عالم الإنترنت وإغواءات الافتراضية.

وقد كثرت المنافسات للتميز بالحصول على أكثر عدد مشاهده لمقطع الفيديو الخاص بصاحب «الحلم المستحيل»، أو عدد إشارات الإعجاب بما يسمى «لايك».

وعمّقت نسبة الربحية من الإعلانات المدفوعة هذا الجنون المستعر بين مستخدمي الإنترنت على الفيديوهات الأكثر مشاهدة. فأصيب الجميع بالجنون المضاعف والهوس الفوضوي وذبول القيم، إذ أن الشهرة باتت على مرمى ضغطة زر. فنرى المغامرين الذين يحاولون تحقيق المستحيل وتعريض حياتهم للخطر من أجل الغرابة وإثارة الدهشة وإعجاب متصفحي الإنترنت، وبالتالي الشهرة والمال.

ونرى من يعرض نفسه لتبتلعه أفعى أناكوندا، أو من تصعد على جسده مدحلة، أو من يأكل الزجاج والمسامير والحشرات الحية معاً، أو من يستفز أنثى فيل بإزعاج وليدها، وغيرها من العجائب الخارقة الخرقاء.

وما كان هذا سيحدث لولا السهولة المتاحة في التصوير والتوثيق المرئي وتَحَوُّل الأفراد المهووسون إلى منتجين ومصورين ومخرجين وممثلين وموزعين وأحياناً ناقدين، على خلاف أيام زمان عندما كانت المسألة صعبة ومحتكرة على شاشة السينما والتلفاز.

أما الآن أن تكون حاضراً في الإنترنت يعني أنك على قيد الحياة، وأن تشارك في السباق المستعر يعني أن تعيش هذه الحياة إلى أقصاها، وأن تحظى بالإعجاب والشهرة، يعني أنك على أبواب تحقيق المستحيل.

وغير ذلك فأنت تقليدي متخلف كسول خارج هذا العالم الطاحن المطحون! والتساؤل أن الجميع يشترون بطاقات اليانصيب، وكثيرون يتنافسون، ولكن الفائزين نادرون والمحبطين كثر. إنها حالة تفقد الإنسان أحلامه الواقعية القابلة للتحقيق وبناء الإنسان الطبيعي القريب من نفسه ومجتمعه.

 

Email