«ألو... أبو فلان»

ت + ت - الحجم الطبيعي

بدا عليه الارتباك الشديد واتسم وجهه بعلامات الاعتذار وسرعان ما استبدله بالتأفف والنظر بغضب إلى جهاز الكمبيوتر الخاص به، وبين الارتباك والاعتذار تجاهي، واتجاه الشخص المراجع الذي يجلس بجواري وهو عربي الملامح والجينات، وبين الغضب والتأفف أمام شاشة الكمبيوتر، اعتذر الموظف الأنيق عن أن إنجاز المعاملة قد يتأخر ثلاث دقائق لأن ثمة ضغطاً هذه الأيام على نظام الربط الحكومي مع الدوائر والجهات الأخرى المعنية بالموافقات الفرعية المباشرة، وهي موافقات إلكترونية بلا ورق ودون الحاجة إلى المراجعات الشخصية الوجاهية.

أصابنا الذهول من حالة الاعتذار والارتباك غير اللازم أو التأفف من جهاز الكمبيوتر غير المبرر على الأقل من جهتنا كمراجعين، إذ أنني لم أشعر أن في ذلك أي تأخير على الإطلاق.

دقائق قليلة لإنجاز معاملة وتوثيقها من جهات عدة قد تحتاج إلى ساعات بل وأيام في بلدان أخرى لم تنجح حتى الآن في حوسبة ملفاتها وإدارة معاملاتها والتحول إلى الحكومة الإلكترونية على الرغم من تقدمها في ميادين البنى التحتية والاقتصادية والثقافية، وتاريخها الصناعي الكبير.

كان ذلك في إحدى الدوائر الحكومية في إمارة أبوظبي، فقلت، للموظف الذي بدا في غاية التهذيب إذ طلب لنا فنجاني القهوة العربية وطبقاً من التمر المغلف بالنكهات، قلت له لا بأس يا أخي، دقائق معدودة هي سرعة قياسية وتكريمية لنا في نظري، فأنت تكافئني بذلك سيما وأنني عشت في أكثر من بلد أوروبي، وبناءً على تجربتي في تلك البلدان كنت أتنقل بنفسي إلى كل جهة معنية لإنجاز معاملتي بين صد ورد، مصحوباً بالطوابع البريدية المدفوعة مسبقاً والأوراق الثبوتية بنسخها المكررة المصدّقة وغير المصدّقة وحشد يرافقني من صوري الشخصية بخلفياتها البيضاء، مسَلّحَاً بقلم حبر سائل أزرق اللون لتعبئة الطلبات والاستدعاءات والالتماسات، وقلم آخر احتياطي إن خذلني الأول، لأن لا أحد يعيرك قلمه أو اهتمامه في تلك الأماكن المليئة بالبشر الحانقين المحبطين، فالقلم هو السيف الناعم الذي تتكئ عليه في إنجاز معاملاتك التي تستدعي منك كتابة بياناتك مرات عدة مع كل طلب استنادي لكل جهة ذات صلة بالمعاملة.

في غمرة كرمه، ولطفه، وحرصه، وضيافته شعرنا بالتعاطف الشديد مع الموظف في الدائرة، لدرجة أن ما أصابه في البداية من ارتباك واعتذار قد أصابنا الآن نحن المتعاملين الاثنين، وكانت مقاربة استحقت مني التوقف، فبدأنا نخفف عليه الأمر.

وتدخل المراجع العربي، مؤكداً رأيي، إذ قال إن في بلده ثمة حراكين أو قناتين لإنجاز المعاملة الواحدة لدى المراجعين، فالغالبية العظمى تستغرق أياماً عدة، ومواصلات متباعدة، وطوابير طويلة، وأجواء من دخان التبغ المتصاعد من الأنفس المتوترة من المراجعين والموظفين المتأففين على حد سواء، وقد يستدعي العودة إلى الطابور نفسه من جديد في اليوم التالي لاستكمال ورقة أو سند لم يتم الإخطار به مسبقاً.

وبدا على الموظف الكريم الفخر بخدمته الإلكترونية التي يقدمها لنا، وبدت عليه علامات الارتياح والسعادة. ولكن سرعان ما قال الصديق العربي: أما الحراك الثاني، فهو أسرع من عمل الحكومة الإلكترونية أو أي كمبيوتر لدى أي جهة متطورة في العالم، حيث تنجز المعاملة بثوانٍ معدودة ودون أية معوقات.

أصابني الذهول، وقد أصاب الموظف اللطيف المضياف الحرج والارتباك ثانية إذ أن ثمة تجارب أخرى متميزة وأسرع مما توقع. فسأله: كيف يمكن هذا، ولماذا لا يمكن تعميم السريع على البطيء في بلدكم لإنجاز المعاملات للجميع بسرعة، وما هي الآلية والممارسة التي يمكن أن تسبق تطبيقات أي حكومة إلكترونية، والإنجاز المركزي السريع بالربط الإلكتروني مع الشركاء الحكوميين؟ أجابه صديقي ضاحكاً: إنها مبادرة تسمى «ألو.. أبو فلان»، حيث يعتمد على الوساطة والاتصال الهاتفي الذي تكون تركيبته، كالتالي: «ألو ... أبو فلان، أنا علان، سيمر عليك إبن فلان، مشّيه بسرعة».

وبذلك تُنْجز المعاملة بسرعة البرق وفي دهاليز المكاتب بلا حنق أو تذمر، بعيداً عن بيروقراطية الطوابير، والأقلام الزرقاء السائلة، والتأفف والتوتر والتأخير.

ضحكنا ثلاثتنا، وأدركنا أن المدعو «أبو فلان» هو سبب رئيسي في تخلف بعض الدول العربية عن ركب التقدم وأخذ فرصتها في التطور والتنمية، وأن القضاء على المحسوبية التي يعتليها أبو فلان وإبن علان لا يمكن أن تقهرها أو تَحِدّ منها بيروقراطية الورق والطوابير الطويلة، بل إن أبو فلان تزدهر مكانته وعزوته وسطوته ونفوذه مع البيروقراطية، فالبيروقراطية، كما يقول أحد المنظرين: هي عجز الواقع الإداري عن تلبية استحقاق التطور والتقدم الذي تحتاجه القطاعات المختلفة. وهكذا، فإن أبو فلان قد تفوق على أحدث التقنيات الحديثة على الرغم من أنه لم يجلس على مقاعد الدراسة أبداً.

أما أنا، وخلال دقيقتين، جاءت الموافقة سريعاً باستصدار تجديد رخصتي التجارية، وكل ما قدمته لإنجاز معاملتي هو الرسوم المستحقة، وبعض الأسانيد المحدّثة، وبطاقة الهوية دون الحاجة إلى «ألو.. أبو فلان». وعدت إلى دورة الإنتاج للشركة التي أعمل بها دون تقصير أو تعطيل أو هدر لوقتي أو وقت الموظف مقدم الخدمة.

 

* مستشار إعلامي

Email