كأنّك لم تَرَها من قَبل!!

ت + ت - الحجم الطبيعي

كيف لم أرها من قبل وأنا الذي أزورها دوماً سائقاً خلف عجلة قيادة سيارتي المريحة، مسرعاً حتى الحد الأقصى المسموح به، أو أكثر بقليل متحايلاً أحياناً على أجهزة رادار ضبط السرعة على الرغم من أنني لست متأخراً على اجتماع أو مستعجلاً لموعد لقاء صديق.

 حالة من الترقب تجتاحني فلا أحيا في هذه اللحظة إلا بأربعة مؤثرات أساسية، عداد السرعة ومؤشراته، الطريق ومركباته، اللوحات التحذيرية وأجهزة الرادار. ورابعها مصيبتها، وهي مطالعة الرسائل النصية، ووسائل الاتصال الاجتماعي، فأمزق نفسي بين كل هذه العناصر وبين عجلة القيادة وسلامتي البدنية.

فلا أرى من أجمل طرق العالم إلا سواد الإسفلت وخطوطه، ويتملكني فضولي غير المبرر لمعرفة استغابات البشر للبشر عبر هاتفي الذكي، أو عبارات وصور تجسد نرجسية بعض الأصدقاء والمعارف لأنفسهم، الأمر الذي يسبب لي حالة من التوتر العضلي في يداي وحتى على رؤوس أصابع قدمي.

وأعتقد أن ما يصيبني قد يصيب الكثير من السائقين غير المحترفين على الرغم من خبرتهم الطويلة، وخصوصاً من هم مثلي غير المهرة في الانتقال الذهني والاستيعابي والتفاعل الديناميكي البصري السريع بين مشهد وآخر، فدائماً ما أركّز في طريقي على أشياء محددة خوفاً من فقدان منفذ ما أو إشارة مركز أو مكان ترفيهي ما، أو رسالة نصية غير مستعجلة من صديق، وهي كثيرة، وغالباً ما أفقد وجهتي، فأتذكر أن لدي جهاز تتبع الأمكنة الذي ينقذني دائماً، ويريحني من فوضى دائرة التيه بين العناصر الأربعة التي أغرقت نفسي بها، فحجبت عني رؤيتي كسائق هادئ قادر على القيادة والاستمتاع بالجماليات المتنوعة والغزيرة لشارع الشيخ زايد في مدخل دبي الجديدة.

"دبي ... كأنك لم ترها من قبل"، قالها صديقي الذي يكره قيادة السيارات، كيف ذلك سألته، وهو الذي أجابني: المترو من أول محطة على مداخل المدينة، والعودة به. وهذا ما فعلته هذه المرة إذ عاهدت نفسي أن لا أستعمل هاتفي الذكي ولا بريدي الإلكتروني ولا أي نوع من التراسل أو التسلية بالألعاب الإلكترونية... فقط السكينة والتوحد مع المدينة بلا تحايل على رادارات الشارع بالسرعة والتسارع، سأغلق هذا الداهية الذكي المنافس الوحيد القادر على منعي من الاستئثار بجماليات المكان والبشر فيه والمشهدية البصرية التي تصنع أولى الذكريات وأبقاها وأطولها.

ركنت سيارتي في أحد المواقف المجانية المظللة في مداخل المدينة القريبة من محطة المترو بحسب نصيحة صديقي، استقليت مترو دبي تلك الأيقونة السياحية المتحركة التي تمر بك عبر معالم المدينة وحيويتها وحركتها. متجنباً بذلك زحمة المدينة وعناء قيادة السيارة.

منحت نفسي فرصة لم انتهزها من قبل، الاستمتاع بمشاهدة البشر والمدينة من ارتفاع يتيح لي رؤية جديدة للمدينة ويمنحني تجربة سياحية مذهلة. هي المرة الأولى التي أركب فيها المترو بلا انصياع لهاتفي الداهية أو استهتار بفاتورة المخالفات المرورية، ركبته بلا زحمة أو ضعف في التركيز أو توتر غير مبرر أثناء قيادة السيارة. لقد كنت جزءاً حيوياً من المدينة المذهلة متفاعلاً فيها ومعها، قرأت وشاهدت كل شيء على الطريق، تعرفت على الأمكنة، حددت مكاني المتحرك في المدينة بسهولة، عرفت شريانها الرئيسي وشوارعها الفرعية التي تنبض بالحياة، وبالبشر العاملين، والزوار والسائحين، وحركة السيارات والحافلات والدراجات النارية، شاهدت الواقفين على أبواب بنايات مكاتبهم الممنوعون من التدخين في داخلها، التشجير والتزهير على جانبي الشوارع، وإعلانات المدينة الكبيرة الذكية.

ولفت انتباهي شاب فتي يبدو أنه طالب جامعي، لم يأبه بجمال المدينة ولا بأحد حوله، لم يرفع رأسه عن جهاز هاتفه طوال الرحلة، ولم تهدأ رؤوس أصابعه عن النقر، وحاجبيه عن الشد والارتخاء، حتى أذناه كانت تتحركان، هممت بأن ألفت نظره إلى برج خليفة الشاهق الذي بدت قمته من بعيد وقد عانقتها سحابة صغيرة وكأنها تاج أبيض، فالمشهد لا يتكرر بنظري، ترددت، لأنه عاقد الحاجبين بشكل غير عادي.

فجأة أغلق هاتفه غاضباً، وتمتم بالسباب، قلت له اهدأ، ماذا جرى، رمقني بعينه، ولم يجبني، وأعاد فتح هاتفه ليستكمل حواره الإلكتروني المستعر، وعادت تمتماته وعلت نقراته، وتعانق حاجبيه من جديد. طفت بنظري على من حولي، فوجدت القلة من الركاب ينظرون عبر نوافذ المدينة بهدوء وسكينة، إما هم أطفال، أو كبار السن، أو من نسي هاتفه الذكي، أو جهازه اللوحي، أما الغالبية العظمى غرقت في عالمها الافتراضي.

أعلن المترو عن اقتراب محطة التوقف القادمة، توقف المترو، نزل العديد من الركاب، وبعد خطوات من مسير المترو، تنبه الشاب الجامعي أنه فقد محطته المستهدفة، أصابه الارتباك، فالحنق، فالغضب، فالجنون، نظر إلى الهاتف الذكي بعصبية مفرطة أخافتني، وألقى به على الأرض بين قدمي، غاضباً من نفسه ومن ذلك الشخص المجهول عبر القارات الذي تعرف عليه إلكترونياً، على ما يبدو.

قلت له في سرّي إذ أنني لم أجرؤ البوح بها علناً: أنا في سيارتي في الشارع تائه، وأنت في هاتفك بالمترو تائه كذلك.

 

* مستشار إعلامي

Email