ثلاثية الفرح

ت + ت - الحجم الطبيعي

ثمة مناسبات وأماكن وأجواء تستطيع بسهولة أن تنفض عنا ما تراكم علينا من الكياسة حوّلتنا إلى شخصيات مملة، تكون قادرة على كسر الحدود الاجتماعية التي نرسمها لأنفسنا في علاقاتنا مع الآخرين، فنعود بأجواء تلك المناسبات إلى عفويتنا وطفولتنا، فنقترب من بعضنا كبشر، ونلهو، ونمرح، ونسترخي، ونقفز، ونضحك كأطفال. وليس أكثر من هذه المناسبات وديّة وجمالا وحيوية من الأعياد، وليس من هذه الأماكن أجمل وأسعد من شاطئ يملؤه المصطافون، وليس أبهى من أجواء سوى إقامة حفل عائلي يجمع الأهل والأصدقاء والأحبة صغار وكبارا. فما بالك إذا اجتمع الجميع في حفل على شاطئ يوم عيد؟ فمن المؤكد أن أنها ثلاثية السعادة التي لا يقاومها أحد.

في عصر اليوم الثاني من عيد الفطر قبل عام، وقد اجتمعت العائلة بأكملها وغطى الحب الصغار والكبار، تآمر الأطفال فيما بينهم أن يذهبوا إلى الشاطئ ليكملوا فرحتهم، فأرسلوا أصغرهم وأشرسهم ليلقي برغبتهم «الموقوتة» بيننا، الكل ضحك وسخر من هذه الرغبة، فالعيد مناسبة للتزاور وعطلة للراحة وفي كثير من الأحيان للكسل والتكسل، وإذا تم تجاوز المألوف فيه، فهو الذهاب لمشاهدة فيلم سينما بعد الانتهاء من واجب الزيارات. أما البحر والشاطئ، حيث الحر، والشمس، والحركة ومتابعة الصغار والقلق عليهم، فلا يتناسب مع سكينة العيد على الإطلاق.

وبدأ الطفل الأصغر الشرس العنيد بالبكاء والصراخ مُحمّلاً بما وعده به إخوته من مرح، مشحوناً بالفرح المنتظر على الرمال الذي رسمه له أقرانه المتربصون المتنصتون والمتلصصون والمتلهفون خلف باب الغرف المجاورة ومنحنيات المنزل لمعرفة نتيجة المفاوضات (8+1) كما يحلو للسياسيين تسمية مفاوضاتهم، إذ كنا ثمانية من الكبار وهو الصغير المشاكس.

ووسط إلحاح وبكاء ونواح الطفل الصغير وما قابله من رفض قاطع وسخرية من الأهل الكسالى المتخمين بحلوى العيد، تقاطر الأطفال واحداً واحداً والكل يهتف أو يبكي أو يصرخ «شاطئ.....بحر....شاطئ». رضخ الكبار للصغار خجلاً من بعضهم، وبدأوا بالتشاور حول المكان والموعد على الشاطئ، وبالفعل اضطروا أن ينفضوا عن أجسادهم كسلهم، وغادر منزلنا كلٌّ مع أطفاله استعدادا للالتقاء بعد ساعة على الشاطئ.

كان الوقت قبل الغروب بساعة، والشمس خجلة غير حامية، نزلنا بسرعة إلى المياه الدافئة صغارا وكبارا، وكان الشاطئ يعج بالمصطافين، والبحر يموج بالمئات منهم، والمرح يلف الجميع. واستذكرت نواح وبكاء الصغار وهتافاتهم: «شاطئ...بحر...شاطئ»، وأدركت كم أنهم لصيقون بالحياة وبالعيد وبفرحه أكثر منا نحن الكبار. وحولوا بمجيئنا إلى الشاطئ عيدنا إلى بهجة جماعية تصنع ذكرياتنا.

كانت الشمس الناعسة عند الغروب تغرق خلف البحر، وترقص ألوانها الصفراء على منحنيات الموج الذي بدأ مده الليلي، والكل التزاما بقوانين الشواطئ التي تمنع السباحة بعد الغروب، خرجوا من البحر وألقوا بأنفسهم على الرمال أو المسطحات الخضراء القريبة. تجمعنا ونحن قرابة الثلاثين نفرا من مختلف الأعمار ومعظمهم من الأطفال، وقد كنا أكثر مجموعة انسجاما مع مقولة أن العرب كثيروا النسل والإكثار. تجمعنا على أحد المسطحات الخضراء، والمئات في حالة بهجه ومرح واسترخاء ولعب دون قيد أو شرط سوى ما نصت عليه لافتات الآداب والسلامة العامة.

غابت الشمس، وعشرات الجنسيات من آسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية وأفريقيا والعرب، وغيرهم من خلق الله جاؤوا إلى أبوظبي عاملين أو زائرين، بعضهم يفترشون المسطحات الخضراء أو جالسون على مقاعدهم المتنقلة، يتسامرون ويضحكون، وبعضهم تركوا خلفهم منحوتاتهم الرملية على الشاطئ وهم الذين قضوا ساعات في تشكيلها، وآخرون يلعبون الكرة الطائرة، أطفال هنا وهناك يلهون بطائراتهم الورقية، وبكرة القدم، وبألعابهم المضيئة ليلا، وهي غالبا ما تكثر في الأعياد.

وسط هذا المرح أطلّت علينا مجموعة من الفتيات والشباب الهواة ويبدو أنهم من إحدى البلدان الإفريقية، وقد ارتدوا ملابسهم التقليدية، وبدأ أحدهم بقوة بالعزف على آلته الموسيقية النافخة المنتفخة وينثر من حوله أجواء مهرجانية، ومن بعده جاء رفيقه بآلة وترية تقليدية صغيرة الحجم عالية الصوت، وأخرى تحمل إحدى الثمرات القشرية المجففة وهي ذات الأصوات المخشخشة، وآخر يقرع طبلا كبيرا، وغيره ينقر أعواد قصب سميك، وغيرها من الأدوات التقليدية. ومع كل آلة تنضم بعازفها إلى المجموعة يزيد ارتفاع صوت الموسيقى التقليدية. وبدأ الشباب الهواة بالعزف والرقص التقليدي، بأزيائهم التقليدية.

استطاع هؤلاء الهواة أن يجمعوا المئات من زوار الشاطئ، والمستجمين، والمتنزهين على كورنيش أبوظبي، فتقاطر الصغير والكبير للاستمتاع بهذا العرض الفني، وبدأ الصغار وعائلاتهم بالرقص على أنغام هذه الموسيقى الإفريقية التي عرف عنها أنها تُرقّص الشجر وتحرك الحجر. وقضينا مع المئات أجمل ساعة مع أجواء هذه الفرقة، واستمتع الجميع، وبينما كنا نستعد للعودة إلى منازلنا، علت سماء أبوظبي ألعاب نارية ابتهاجاً بالعيد، فأضيئت السماء بالألوان، وتلألأ البحر بانعكاساتها.

 

* مستشار إعلامي

Email