بين التقدم والتخلف

ت + ت - الحجم الطبيعي

رسم الإنسان القديم قلقه همومه وأحلامه وطقوسه على جدران الكهوف ومنحنيات الدروب، وجذوع الأشجار العملاقة، فنحت الصّخر والعظام، ونصب الشواهد، وكوّن الطين وشكّله ولوّنه وزخرفه باحثاً في ذلك عن هويته فيما حوله وخلق محيط يتواءم معه ويذوب فيه..

فكانت الأدوات والألوان والرسوم تتشكل وتُنْتَج بعفوية الأرض البكر بلا محراث آلي أو سماد كيماوي، وعصراً فعصراً تراكمت التجارب وتطورت المنتجات المادية، فكانت الهوية، وكان السلوك والقيم والثقافة والبيئة والمجتمع والمعتقدات، ومن بعدها المعاناة والحروب والتحالفات والانقسامات ومتتالية الاستقرار والفوضى.

تطورت المجتمعات وتطورت منتجاتها، وأصبحت الهوية محركاً رئيسياً في شخصية أفراد المجتمع وكينونتهم المعنوية والمادية، ولكن ما الذي يحدث في مطلع القرن الواحد والعشرين، وأعتبر نفسي مثل الكثيرين من سيئي الحظ إذ تصادف أننا نحيا هذا الزمن الفوضوي، ومن المؤكد أنني لن أعمّر حتى يأتي الاستحقاق الطبيعي لزمن للاستقرار والهدوء، إذ أن دورته بحسب التاريخ قد تطول لعشرات السنين.

ومن المفارقة أنه بقدر انفتاح العالم على بعضه اتصالاً وتواصلاً وسرعة في التنقل والسفر، وكذلك التفاعل الإنساني بين البشر في كل أنحاء المعمورة بما يسهم بشكل واضح في رفاهية الإنسان والمجتمعات..

إلا أنه بالمقابل تنهار مجتمعات عربية بأكملها وتتفتت في دول ما تسمى بالربيع العربي، جيل يولد وهو شاهد على عادية القتل والفوضى والعنف والتطرف والجهل والموت الفوضوي، لقد تكسرت الهوية التاريخية والحضارية تحت "سيوف" الجهلة.

هذا التدمير الذي ينتهجه التطرف الأعمى في بعض الدول التي فشلت في الحفاظ على مقدراتها وثرواتها وشعوبها، فانعكس الحال عليها، وبقوة وبسرعة لا تقل عن سرعة إيقاع ثورة تقنيات الاتصال والتواصل العالميين والتي جعلت حياتنا أسهل وأكثر سلاسة.

 ولكن في "خريفنا العربي" أمست المجتمعات ضحية إساءة استخدام هذه التقنيات وفي مقدمتها الإنترنت وتطبيقاتها التي وضعت لخدمة البشرية والتواصل الإيجابي في معرفة الآخر وحضارته واكتشافه والتفاعل معه والتعلم منه والتأثير فيه. وعزاؤنا أن بعض الدول العربية المتقدمة قطعت شوطاً كبيراً في استثمار هذا التطور النوعي في تكنولوجيا الاتصال والتواصل والتفاعل الحضاري بين الأمم والشعوب.

فحملت على عاتقها تغيير النمطية السلبية عن العرب باعتبارهم شعوباً برّية لا تقبل المدنية والتطور، فأسهمت هذه الدول بتقدمها وأعمالها وريادتها تفكيك هذه النمطية ودحضها.

ونعود للسؤال الأول، أين حصانة الهوية التاريخية أمام هذه المفارقة بين التقدم والتخلف باستخدام نفس أداة التقنية، ودون أدنى شك أن الغرب قد أسهم في تقدم البشرية منذ عصر النهضة، كما أسهم العرب بالمقابل في نهضته الأولى إلى حدٍ ما. إن التفاعل والحوار هو أساس النهضة المشتركة بين الشعوب والحضارات، وكنا نعتقد وما زلنا أن الإنترنت وتطبيقاتها هي أهم دعامات هذه النهضة المشتركة بين الشعوب، وأن الاهتمام بالهوية الثقافية والحوار الثقافي التي تحرص على إثرائه وصونه وتلاقحه كثير من الدول المنفتحة والمعتدلة يفيد المجتمعات وتطورها وتفاعلها مع الآخر.

إن التمسك بالهوية ومكوناتها وغرس مقومات تطورها الموضوعي والوطني والعلمي والتعليمي والثقافي من جهة، والانفتاح على الآخر والاستفادة من نتاج حضارته دون إقصاء أو انقياد من جهة أخرى، يجعل البلاد عصيّة عن الفتنة والجهل، وما تلك الدول التي تنهار أمام أعيننا إلا مثالاً صارخاً..

حيث ينتشر فيها الموت الأعمى والقتل السهل، وكأنها قد عادت بأهلها إلى عصر ما قبل الكهوف، ولكن بدلاً من التواصل بالرسوم والرموز لاكتشاف الهوية وتهجئة أبجديات الحضارة، يتم التواصل في أيامنا عبر الإنترنت وتطبيقاتها بهدف بالتدمير والقتل لتدمير الهوية والإرث الحضاري.

Email