مَسْعود البَطَل

ت + ت - الحجم الطبيعي

عاش حياته كباقي خلق الله، لا ميزة، ولا نقيصة، عاديٌّ جداً، لعب كباقي الأطفال في الظلال خِيفة من الشمس الحارقة، وعن أمه التي حذرته غير مرة أن ضَرَبات الشمس موجعة وقاتلة في بعض الأحيان، اعتاد صُنع طائرته الورقيّة بيده اليسرى من خشب صناديق الفواكه وأكياس النايلون..

وتشكيل كرته الصغيرة من الجوارب المهترئة المحشوة بقطع القماش البالية، عادياً كان هو كباقي الأطفال في حيّه الفقير، يتسللون خلف كومة البطيخ على رصيف الباعة ليسرق أحدهم واحدة، بينما الآخرون يشتتون نظر البائع. ذاب مسعود بين أقرانه في المدرسة فالزيّ متشابه حد المَلل، وانصهر بين أصدقائه فالاهتمامات والألعاب هي ذاتها، لم يكن أحد ليأبه به أو ليحدق فيه، حاله حال الجميع في مدينته، بسطاء وعاديون وهامشيون، يستيقظ يغادر يتعلم يعود ينام يكبر بأيامه وهكذا .

لا علامة فارقة في قدرات مسعود ولا في جسده إلا تلك الإعاقة غير الملاحظة للغرباء في كف يده اليمنى التي لا تنبسط أبداً لا للمصافحة أو للأكل، فقد ولد بقبضته، وتحتاج إلى عملية جراحية معقدة ومكلفة إذ إن علاجها في الصّغر لم يتم، فتكلست مفاصلها وتيَبّست عضلاتها، وإن بدت عادية في الشكل، ولكنها غير عملية في إن احتاجتها يُسراها.

ولكن اليوم، شيء ما مختلف يحدث، في الشارع، والحافلة، والسوق، الكل يحملق فيه، هو الذي لطالما استجدى التفاتة فتاة ولم يجدها، الآن فيضٌ من الابتسامات العذراء الخجولة من كل جانب تغمره بلا سبب يعرفه. تفقد يَده، واطمئن أنها مازالت خفيّة عاديّة غير ملفتة للانتباه أو مثيرة للشفقة، تساءل: فما هو الجديد الملفت في جسدي..

ذهب مسرعاً إلى أقرب حمَام عام، نظر في المرآة وتفحص وجهه، وأنفه، وعينيه وشعره، وملابسه، وعلى الرغم من أن شيئاً لم يتغير، إلا أنه أعاد ترتيب نفسه، وشعره، ومطّ أنفه مما قد عَلِق فيه، وفرك عينيه، وهذّب حاجبيه بأطراف أصابعه اليسرى، وأزال بقايا اللعاب على ملتقى شفتيه، ورتّب هندامه، ورفع ياقته وخرج، وشم أكمامه ليتأكد أن لا روائح علقت في ملابسه، ومضى بهدوء، وقد سرى في داخله إحساس لم يشعره قط أبداً في حياته، إنه التميّز..

والقوة النابعة من اهتمام البشر، لم يأبه بالسبب بقدر ما فرح بنظرات الناس المبتسمين المتهيّبين منه والمقبلين عليه في آن. كان يمشي ويخفي قبضته المعاقة بِكُمّ قميصه الطويل، ليعزز ثقته. تقمّص الهيئة التي رسمها له المارّة، فمشى معتَداً منتصباً يتحرك يميناً ويساراً بتؤدة المشاهير، يهزّ رأسه ردّاً على كل من يحييه أو يلوّح بيده. سَعُد مسعود بهذه الشّهرة المفاجئة. شعر أن عقدة قبضته انبسطت، وأنه وُلد من جديد في عيون المارّة المتلفتة نحوه، والفتيات المتلهفة عليه.

ومع كل خطوة يخطوها وسط الناس تزداد ثقته بهيبته وبحضوره الطاغي الذي يغمره به المتسوقون الخجولون.، فقد نبتت له أجنحة بدلاً من يده المتصلّبة المقفلة، ولأول مرة يحس بثبات خطواته، وأن التمايل قد يكون امتلاء وثقة، بدلاً من اختلال واعتلال. على مدى ساعتين عاشها في المهابة والثقة العارمة والخُيَلاء الذي أصاب صديقنا مسعود، نسي نفسه، فهو قبل الحمّام ليس كما بعده.

وبينما صديقنا مسعود يمتطي علياءه وخيلاءه وثباته، شاهده مجموعة من المراهقين، وتنادوا بصوت عال فيما بينهم، وصرخ أحدهم: إنه «بلدياتنا» البطل أحمد الذي حاز أمس على ذهبية العالم في السباحة. أقْبَلوا عليه وتدافعوا نحوه ليهنئوه، وتجمع من حوله الناس، والكل يهتف بأعلى صوته: أحمد السبّاح، أحمد البطل. أدرك مسعود أن الفضل في محبة الناس يعود لأحمد السباح البطل الذي يبدو أنه شبيهه تماماً.

أصابه الارتباك، ولم يجرؤ على مصافحة أحد لئلا تفضحه يده المعتلة. هلل الناس «لأحمد/ لمسعود» على إنجازه الكبير في عالم السباحة، وهو الذي لم يسبح في حياته إلا في تلك البِرَك المتجمعة في المنخفضات عند نهاية كل شتاء. تسلّل مسعود من بين الجموع الهاتفة مبتسماً ملوّحاً بيده اليسرى، وعاد إلى البيت مسرعاً يتصفح الجريدة، والإنترنت..

ويبحث عن نفسه في أحمد البطل وإنجازه الوطني العظيم. أدهشه وجه الشبه الكبير في الملامح والجسم والتعبير وكأنه توأمه. نظر إلى نفسه بالمرآة وتأملها، وألقى بالجريدة عرض الحائط، وذهب في اليوم التالي بقبضته المغلقة المتصلبة ليلتحق بمركز تدريب الملاكمة.

 

Email