سِيقَانٌ مُتكسّرَة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت ملقاة تَغرَق في نداها الصباحي بعيدة بأمتار قليلة عن حاوية النفايات، وعلى ما يبدو أنها أُلقَيَت على عجَلٍ وفي الليل وبكامل أناقتها وزهوها من إحدى نوافذ البناية الشاهقة المجاورة، ولكنها على رغم ارتطامها بالأرض وتكسّر سيقانها ما زالت تحتفظ بألَقِها، وذلك الشريط الزّهْري المَعْقود حولها يلفها، ملقاةٌ، منسيّة، تعانق بعضها وكأنّها عذراء غرقَت في خجلها، واحمر ت حتى جفونها.

لم يكن لدي الوقت الكافي لأنتشلها، خجلا من المارة الذين يرمقونها من بعيد، ويمضون في سبيلهم مهرولين خلف عجلات قيادة سياراتهم لاستدراك مواعيدهم وطاحونة أعمالهم.

وأنا واحد منهم تطاردني دقائق الصباح، فلا وقت للتأمل فيما أفرزه الليل وباح به الصباح. ولكن لا بأس، سأعتني بها في طريق عودتي بعد أن أُقِلّ أولادي الثلاثة إلى مدرستهم كعادتي كل صباح، هي عشرون دقيقة فقط، وهي فترة الذروة الصباحية يتحول الإنسان فيها إلى وحش عمل شرس، وآلة طحن وقودها المسافة والوقت.

هي نوع خاص من مرض «التوحّد» غير المعلن فينا. حالة اللهاث تصيبنا فتنهكنا وتتعطل أحاسيسنا، فلا نرى أو نسمع أو نشم أو نحس بمن حولنا. وقد راهنت أن وطأة «التوحّد» هذه ستذهب عني لأني اليوم لديّ متسع من الوقت أنتشلها وأعالجها من رضوضها وكسورها، وأرويها بالماء العذب، وأمنحها أياما إضافية من الحياة.

مسرعاً، عدت إلى ذات المكان، فلم أجدها، سوى بقايا متناثرة، خليطٌ من بعض أوراق حمراء مُخمليّة متناثرة هنا وهناك، وخضراء تحيط بها وكأنها تحمي ما تبقى من جمالها وعطر روحها تتماسك أمام هبّات الهواء الصباحية تقذف بها في الزوايا بعدما يتبخر عنها ثقل الندى الصباحي. أو قد تُفرَم تحت وطأة أحذية المشاة المُتَعجّلين. مُتلهّفاً ما زلت أبحث عن جِسمها المعقود بالشريط الأحمر.

وصادف أن هناك في ذات المكان قد وصلت سيّارة نقل النفايات برائحتها المنفّرة. وخلف الناقلة سمعت ضحكات تتعالى، أصابني الفضول بأن أرى ما يحدث هناك مدفوعاً بفضولي أن أعرف مصير تلك الباقة العذراء الجميلة من الورد الجوري الأحمر التي اختفت وانهزم عِطرها، وكنت أتمنى أنه لم يتم طحنها بين أسنان «وحش» نقل النفايات بعد، فأنقذ ما يمكن إنقاذه، وأعيد للورد بعضا من هيبته وعبقه المفقود.

التففت حول الناقلة مُخفياً فضولي واهتمامي، ومشيت منتصب القامة مدعيا المهابة بربطة عنقي الحمراء وبلا اكتراث بأصوات من هم خلف الناقلة، على أيّ حال، لم يأبه بي أحد منهم، كانوا يتبادلون فيما بينهم الضحكات وباقة الورد الضحية، ويتأبّطونها تارّة ويحملونها تارّة، ويُقدّمونها، ليلتقطوا صورهم فُرادى من خلال هواتفهم المتحركة. كانوا ثلاثة، السائق وعاملا تحميل النفايات. أدهشني المشهد، لقد أعادوا إلى الباقة الضحيّة علاقتها المفقودة مع البشر..

ونفضوا عن ورودها غبار الأرض، ومسحوا جروحها، وخلّدوا ألقها في ذكرياتهم وذكرياتي في تلك اللحظة. ونظرت إلى أحدهم وابتسمت، فابتسم، وعرضت عليهم أن ألتقط لهم صورة جماعية مع باقة الورود، فرحبوا شاكرين، وقد لاحظت أنهم قد أعادوا تقويم سيقانها المُتكسّرة وشد وثاقها بشريطها الزّهري.

التقطت لهم صورتين واحدة عبر هاتف أحدهم، وأخرى بهاتفي. كانوا مفعمين بالبهجة والمحبة والبساطة والانشراح على الرغم من الروائح النفاذة التي تلف المكان، ويبدو أنهم وبحكم عملهم تغلّبوا عليها بتهميشها واستبعادها من أنوفهم.

شكرني أحدهم، وقدم لي باقة الورد، فخجلت أن آخذها، وقلت له احتفظ بها وضعها في مسْكنك، فقال ليس لدينا متسع في السيارة لأحملها معي، فالمطحنة، وأشار إلى مؤخرة الناقلة، هي مصير كل ما نلتقطه على الأرض. شاكراً مُمتناً، مددت يدي لآخذ الباقة، رفقة بهذا الورد الجميل. وقبل أن يقدّمها لي، أحنى رأسه إلى الورود ليشمّها وكأنه يودّعها.

حينها سحبت يدي واعتذرت عن أخذ الباقة، لأنني لن أرتقي بها بعد هذه اللحظة المفعمة بالحياة التي منحها لها ذلك العامل البسيط، فقد رأيت في عينيه عبق الحنين والبساطة والاستمتاع بالأشياء ببراءة وبلا شرط أو تعقيد. وفجأة، عبقت في أنفي رائحة الورد ولا شيء غيرها. قدّمها ثانية لي، فاعتذرت بشدة، نظر إلى الباقة وإلى زملائه، وابتسم، وألقى بها في مطحنة النفايات، ومضت الحافلة لتلتقط نفايات وقصصاً أخرى.

نظرت إلى أعلى لأرى جميع النوافذ مغلقة، خلفها هؤلاء الغائبون المنقسمون في غرفهم الشاهقة بنوافذها التي تتسع لانتحار علاقة عاشقين ولقتل وردة في يوم قطفها الأول وموت بطاقة حب لم يجف حبرها بعد، هؤلاء الذين لم ينفع معهم الورد جسراً للمحبة والصفح، قد غادروا غرفهم مبكّرين إلى أعمالهم بأعبائهم وشكوكهم وأشواكهم..

وأغصانهم المتكسرة وورودهم الممزّقة. فماذا بعد، فأي شباك سيُفتح هذه الليلة ليكون مقصلة جديدة لحب بلا ورد ولا فسحة. أتعبني النظر إلى أعلى، وعلى بعد أمتار التقطت بطاقة صغيرة مزركشة معشّقة بقلوب الحب والورود الحمراء متسخة بالطّين والبقع الرّطبة، وقد كُتِب عليها: «أحبّك، لنبدأ من جديد!!!»، إذا فلتغلقوا نوافذكم كل مساء بقلب مفتوح.

 

Email