المرض مرضنا وعلينا أن نعالجه بأنفسنا

ت + ت - الحجم الطبيعي

كفانا جلوساً مكتوفي الأيدي أملاً في حدوث معجزات! كفانا انتظاراً للولايات المتحدة أو حلفائها الغربيين كي يطهروا الدول العربية من سرطان الإرهاب المستشري، هل تنتظر الدول العربية أن يطرق مقاتلو «داعش» أبواب مواطنيها في ما تبقّى من الأراضي الخاضعة للسيطرة العربية قبل أن تتحرّك بحزم وقوة؟

كل البلدان العربية تقريباً معرّضة للتهديد، وتلك التي نجحت في منع «داعش» من اختراق حدودها محاطة بالإرهابيين الذين يتسلّلون إليها. تشير التقديرات الأخيرة إلى أن تنظيم «داعش» متواجد الآن في 12 بلداً، ومرتبط بمجموعات متطرفة في بلدان أخرى.

في حين أن المجتمع الدولي، بما في ذلك الجزء الأكبر من العالم العربي، تبنّى موقفاً متراخياً من هذا التهديد، فإن دول مجلس التعاون الخليجي هي الوحيدة التي تتعامل معه بالجدّية اللازمة إدراكاً منها لمدى خطورته. توظّف هذه الدول جيوشها وسلاحها ومليارات الدولارات في المعركة. وقد حان الوقت كي تتضامن البلدان العربية مع حلفائها في الخليج وتُشارك في المعركة ضد هذا الخطر الذي يتهدّد بقوة الأمة العربية بكاملها.

لقد هالني فعلاً أن القوى الخارجية لم تتخذ حتى الآن خطوات فعلية وسريعة لبتر أطراف تنظيم «داعش» التي تنمو بسرعة، أو منع عناصره من تلويث العقول الشابة وتجنيدها في صفوفه، ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إنما أيضاً في الديمقراطيات الأوروبية حيث يستخدم المتطرّفون القوانين التي تضمن حرية التعبير من أجل توزيع مناشيرهم الدعائية.

تشير تقديرات وزارة الخارجية الأميركية إلى أن 22000 مقاتل أجنبي من مئة بلد انضموا إلى تنظيم «داعش»؛ يجب أن يكون هذا الرقم كافياً لدقّ نواقيس الخطر عالياً حينما يعود عدد كبير من المتشدّدين الذين تمرّسوا في ساحات المعارك إلى ديارهم ذات يوم وفي أعماقهم كره شديد لكل ما هو غربي.

لدى النظر إلى خريطة الشرق الأوسط هذه الأيام، نرى حكاية مرعبة من النزاعات الدموية التي تعيث دماراً في ليبيا وشبه جزيرة سيناء واليمن وسوريا والعراق. وعند النظر إلى المشهد العام، يبدو السيناريو غير واقعي إلى درجة أنه يصعب على عقولنا أن تتقبّله.

كيف يُعقَل أننا نشهد في القرن الحادي والعشرين على قطع رؤوس وسبي نساء ومقايضتهن بالسلاح، وإعدام الآلاف ووجوههم نحو الأرض! تُقطَع رؤوس الأشخاص بـ«تهمة» إطلاق الشتائم!

إنه لأمر لا يُصدَّق أن أولئك المجانين سيطروا على نصف سوريا وأكثر من ثلث العراق، لقد ألحقوا العار بمُسمّى «الخلافة» النبيل الذي يشير إلى حقبة ذهبية من الإسلام المُجلّى عندما كان الفقهاء يتدفّقون إلى «بيت الحكمة» في بغداد لتشارُك معارفهم، وكان العرب يقودون العالم في ميادين العلوم والرياضيات والطب والهندسة المعمارية والقانون والفلسفة. والآن يتقدّم تنظيم «داعش» في ليبيا..

وقد بات يسيطر على مدن مصراتة وسرت وهراوة على طول الساحل المتوسط بين العاصمة طرابلس وبنغازي. وهدفه هو الاستيلاء على المنشآت النفطية في البلاد والمرافئ ذات الصلة لدعم خزينته المتخمة أصلاً بالأرباح من مبيعات موارد الطاقة.

بينما تقوم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة اللتان تفضّلان المفاوضات، بثنينا عن مواجهة الإرهابيين عسكرياً، يصمم تنظيم «داعش» على الاستيلاء على حقول النفط الليبية لزيادة ثروته ونفوذه.

بالنسبة إلى الغالبية بيننا، تلك الصور بعيدة جداً عن واقعنا إلى درجة أننا نميل إلى الاعتقاد بأنه لا يمكن أن يحدث ذلك معنا. يُخيَّل إلينا أنه فيلم رعب تنتهي أحداثه ما إن نطفئ جهاز التلفزيون. لكن ما يجري ليس فيلماً، وإذا لم تُتَّخذ الإجراءات اللازمة، ستشهدون قريباً على قصة حقيقية تدور أحداثها في الساحات والشوارع على مقربة منكم. ما الذي جلبه لنا اعتمادنا على التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة؟

يتباهى الرئيس الأميركي باراك أوباما بنجاحاته في العراق، لكن كل المكاسب التي تحقّقت في ساحة المعركة قد تبدّدت. لن تقطع الضربات الجوية دابر الإرهاب، لأن الإرهابيين يتخفّون بين السكان المدنيين المذعورين، ولسبب غامض، نادراً ما يتم استهدافهم، حتى عندما يسرحون ويمرحون في العلن، ويتنقّلون في مواكب.

لم تلقَ المناشدات من البشمركة الكردية والقبائل السنية لتزويدها بالأسلحة من أجل محاربة «داعش»، آذاناً صاغية. يلقي رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي باللوم على إدارة أوباما ويحملها المسؤولية لأنها لم تبذل المجهود الكافي لتأمين التغطية الجوية وتبادل المعلومات الاستخبارية.

لا عجب في صعود نظريات المؤامرة - بدءاً من النظريات المنطقية إلى تلك العبثية - التي تتكهّن حول الأسباب الكامنة التي تقف وراء امتناع الرئيس الأميركي عن الالتزام.

عقدتُ الآمال على المؤتمر الذي نظّمه التحالف المناهض لتنظيم «الدولة الإسلامية» في باريس في الثاني من يونيو الجاري، وحضره وزراء خارجية 22 بلداً، من أجل التوصّل إلى حل مشترك، إلى استراتيجية جديدة. لكن لم يصدر عن المؤتمر أي بيان ذي مغزى.

إنه لأمر غريب فعلاً أن تلك الدول اختارت معالجة المشكلة بالطريقة القديمة نفسها، على الرغم من أن جهودها منيت حتى الآن بفشل ذريع. بعبارة أخرى، «لا تسير الأمور جيداً، لكن لنستمر بالمحاولة، ونأمل خيراً».

تتوقّع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، في شكل أساسي، من الجيش العراقي العقيم والمنحاز الذي يتعاون مع الميليشيات الشيعية المبعثرة إنجاز المهمة. أعتقد أن تلك الميليشيات منهمكة في قتل السنّة وإحراق منازلهم أكثر منه بهزم «داعش»، وهذا بالضبط ما دفع بعدد كبير من القبائل السنّية في محافظة الأنبار، وبعضها عمل مع الحكومة العراقية في الماضي لطرد تنظيم «القاعدة»،إلى التوصّل إلى استنتاج مفاده بأن «داعش» أهون الشرَّين.

بالكاد تطرّق المشاركون في القمة إلى الملف السوري. ليس هناك تصميم دولي على الدفاع عن الشعب السوري الذي يعاني الأمرّين منذ وقت طويل بسبب النظام الوحشي أو «داعش» المتغلغل جيداً في البلاد. أي نوع من السياسات هذا في حين أنهم يعلمون تماماً أنه حتى لو نجح التحالف في طرد «داعش» من العراق، سوف يعبر التنظيم الحدود كي ينظّم صفوفه ويتسلّح من جديد؟

يتواصل هذا الجنون منذ وقت طويل. ربما تستطيع القيادات الغربية أن تدفن رؤوسها في الرمال وتتعامى عن الخطر؛ هناك أميال كثيرة ومحيطات تفصل بين بلدانها و«داعش». لكن نحن الذين نعيش في العالم العربي لا يجوز لنا أن نكون متراخين لأن العدو عند عتبة بابنا ويتحيّن الفرصة للدخول والحصول على موطئ قدم.

لا يسعني سوى الاستنتاج بأن البلدان العربية تتعرّض لمؤامرة حيث تصطف دول أجنبية عدة ضدنا، وتستخدم بوقاحة التشدد الديني كوقود لشن حرب علينا. إذا لم نتصدَّ لهذا الواقع، سنلاقي مصيراً تعيساً. لكن لم يفت الأوان لدرء هذه المؤامرات ومنعها من تحقيق مآربها، أي تحويل بلداننا إلى كيانات ضعيفة لا حول لها ولا قوة.

أحيّي قادة دول مجلس التعاون الخليجي لما بذلوه من جهد لحماية بلدانهم والدول المجاورة والذود عنها. لكن لا يجب أن نتحمّل لوحدنا عبء هذه المعركة، بل على الشركاء العرب وفضلاً عن الدول غير العربية أن تتكاتف معنا. يفعل مجلس التعاون الخليجي كل ما بوسعه للحفاظ على أمن شعوبه وسلامتها،..

ويجب أن نقرّ بالفضل والتقدير لقادتنا. الحل المباشر على المدى القصير هو أن تعمد مصر والمغرب والأردن ودول مجلس التعاون الخليجي إلى التعجيل في تشكيل جيش مشترك كبير الحجم يتألف في شكل أساسي من قوات برية مجهّزة تجهيزاً كاملاً، ومدعومة من سلاح الجو والمدفعية، ومهمته استئصال «داعش» والميليشيات الشيعية الموالية لإيران.

إذا تردّدنا في التدخل في الوقت المناسب، مصغين إلى نصيحة القوى العالمية نفسها التي تسعى إلى تدميرنا، فسوف نرسم بأيدينا مصيراً قاتماً لبلداننا. أما في المرحلة الثانية فعلينا إغلاق حدودنا كافة مع إيران لإحباط أطماعها التوسعية.

وفي موازاة ذلك، يجب أن يكون الهدف في المدى القصير إلى المتوسط، إصلاح النظم التعليمية لتربية أجيال مثقّفة ومنوّرة قادرة على التفكير بصورة مستقلة بدلاً من الوقوع تحت تأثير البروباغندا المغروضة التي ينشرها أشخاص ومجموعات عديمو الضمير.

التعليم الرديء النوعية مساوٍ للجهل، ومن يستغلّون الجهل يجدون فيه أرضاً خصبة لنشر التطرف وتجنيد الإرهابيين. علينا أن نعمل جميعاً على محاربة الرسائل المغلوطة والمضلّلة التي تدفع شبابنا نحو التشدّد وتشوّه صورة ديانتنا في عيون العالم.

ينبغي على الدول الإسلامية وغير الإسلامية على السواء أن تقف جنباً إلى جنب مع مجلس التعاون الخليجي لمحاربة واستئصال هذا الوباء الغريب الذي يعيث خراباً وتمزيقاً في منطقتنا، وأبعد منها أيضاً. من يتردّد سيكون مصيره الضياع والهزيمة، وما دام العالم يختار السجالات والمفاوضات بدلاً من التحرك الحاسم، سيُقضى علينا جميعاً في منطقة يسيطر عليها برابرة مختلّون عقلياً.

Email