انتحار قِفْل

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتوافد العشّاق من فرنسا وجميع أنحاء العالم لوضع أقفالٍ على جسر بونت دزأرت، أو جسر الفنون الشهير، وإلقاء المفاتيح في نهر السين، حيث لا رجعة.

ولكن تزايد أعداد الأقفال التي ُقدّرت بما يزيد على مليون قفل، بزنة 45 طناً، ما هدد سلامة الجسر والبشر والعشاق المتوافدين، إذ سبق وانهار جزء من الجسر الشهير. كما تنهار أجزاء أو كل بعض علاقات البشر. والحقيقة أن هذا واقع العديد من جسور العشق الشهيرة، ليس في فرنسا فحسب، بل في العديد من المدن الأوروبية المزدحمة بالعشاق والسياح والأنهار والجسور، وفي مقدمها فرنسا، إيطاليا، إنجلترا، وألمانيا.

إذاً، لماذا اختار العشاق الجسور بعينها، وليس الشوارع أو غيرها من الأمكنة، ولماذا غالباً العتيقة منها الواصلة بين ضفاف الأنهار، فتستهوي الملايين ليِخلّدوا ذكرياتهم بأقْفَالِهم المغلقة إلى الأبد؟

وما سرّ وحيِ تلك الجسور التي ألهمت الشعراء، فنظموا قصائدهم توسلاً وتأملاً ومناشدة للمعشوق المفقود أو المفتقد أو المحتمل فقدانه؟. إغواء يدفع العشاق على قطع الأميال ليعلّقوا أقفالهم على جسور «الغرام»، فيحَمّلونها ثقل الحب و«عبء» احتمالية انقسام الروح في جسدين؟

أهو دَفَقُ الحب الذي يدفعنا أن نقلق ونخشى على ينبوعه من الجفاف وأوراقه من الذبول، أم هو حِرزٌ يحمي عاشقيْن من لعنة الهزيمة وغدر الزمان أمام منافس أو منافسة محتملين دخلاء قد يظهران صدفة على طاولة مقهى في الجهة المقابلة، أو من خلف أرفف سوبر ماركت وقت الظهيرة،..

حيث القدر يصطاد فيؤلف بين المحبطين والمهزومين في علاقاتهم السابقة، أو مصادفة بريئة برسالة إلكترونية عابرة تصلكم من أحدهم، أو حتى مكالمة هاتفية وردت بالخطأ من إحداهن، أو تقاطع عينين مرتبكتين في لحظة ما عند مفترق طرق، أو مصادفة محضة عند جهاز دفع رسوم مواقف السيارات، إذ ارتبكت لأنها لا تمتلك الصرف المعدني الكافي، فيهبّ عابر السبيل العاشق المحتمل لينقذ الموقف بالتبرع المعدني «السخي».

وفي مكان على هذه الأرض قريب أو بعيد عن ذلك القِفل الرّمْز المعلق أو المحفوظ أو المحكوم عليه بالإعدام شنقاً على جسر غرام، وسط ملايين الأقفال الصدأة، يهتز هذا القِفل في دواخل قلوب العشاق المحبطين، محاولة منهم للتحرر منه..

ومن هذا الصدأ العاطفي، فيقدح الشرر في لحظة تقاطع العينين مع الغريب أو الغريبة، ويخفق القلب من جديد لعابري السبيل، فيفتح كليهما بدهاء السحرَة وبسطوة العشاق قفليهما المخبئين في القلب، فيتحرروا من أقفال لعلاقات سابقة مهترئة ماتت على جسورها. ويحمل العاشقان الجديدان ينبوعهما في قلبهما، ليروي المعشوق معشوقته بلا خيبة أمل، حارثين حدائقهما من جديد، وكأن الحياة فيها ليس إلا فصل الربيع.

هي الحياة، جسور غرام هشة مهددة بالانهيار في أي لحظة، وأقفال عِشقٍ حديدية تصدأ من الداخل ويغيّر الزمن من لونها، وتزاحمها أقفال أخرى تصدأ سريعاً أو بطيئاً، لكنها تصدأ إلا القليل القليل. وهذه هي الذكريات، أنهار تعج قيعانها بالمفاتيح الصدأة المنسية إلى الأبد.

وأقفال مهملة منتشرة على نحو فوضوي وعشوائي، لو قُدّرَ لها أن تختار مصيرها بين البقاء معلقة على الجسر وبين الانتحار في مياه النهر، لاختارت معظمها اللحاق بمفاتيحها التي أعدمت في اليوم الأول بأيدي عشاقها.

هو انتحار جماعي طوعي للأقفال، اعتراضاً على عشّاقها الذين لم يصونوا قلبها المقفل، أو لم يحفظوا عهد الترابط المطلق الذي قطعوه على أنفسهم، عندما علقوا أقفالهم، أو شنقوها، بحسب ما عرفناه لاحقاً من انكسار حياة أصحاب الأقفال الصدأة. فتحولت الجسور إلى منصات مشانق، أو هاوية انتحار بدلاً من جسر غرام، وإشهار بالحب الأبدي.

حياتنا كبيرة لا يحاصرها قِفل ومفتاح، أو يحدّها جسر ونهر، ولأولئك الذي يصرّون على شراء أقفالهم، فليتذكروا دائماً أنه عند شراء أي قفل، ثمة مفتاح ثالث لا نعبأ به، ونلقي به في مكان ما مهجور، ولكن ليس في النهر، وغالباً ما يُنسى، وإن أهملنا صون القفل الذي في قلوبنا، ثمة طرف ثالث قد يوقظ المفتاح المنسي المهجور.

فانفضوا دائماً عن أقفالكم ومفاتيحكم غبارها، ولا تهجروها. وتذكروا أن البشر يصنعون الذكريات وينثرون الحياة في أماكنهم، حتى ولو كانت أطلالاً وبقايا، فكما قال قيس بن الملوّح في معشوقته ليلى: «أمر على الديارِ ديار ليلى.

. أقبل ذا الجدار وذا الجدار، وما حب الديار شغفن قلبي.. ولكن حب من سكن الديار». وما زالت هذه الكلمات تصدح حتى يومنا هذا بلا قفل ولا مفتاح ولا نهر ولا جسر، على الرغم من اندثار تلك الديار والأطلال التي تغنوا بها.

Email