لمن يكتبون!!

ت + ت - الحجم الطبيعي

عادة ما نصرخ بأسئلتنا الوجودية والجدلية في آخر مقالاتنا، فتكون بعد التشخيص والتمحيص والاستدلال فيبرز السؤال الاستنتاجي..

 وقد يكون ساخراً أو استفزازياً أو استهزائياً يطرحه الكاتب نفسه بهدف أن يقدح التفكير ويعيد تحريك المسببات والأسباب والنتائج لدى القارئ، فيلقي في المياه الراكدة حجراً ينثر الأمواج حوله، وقد يستدعي منا هذا قراءة بعض المقالات مرة أخرى ليكون السؤال أعلى صوتاً في دواخلنا ويدوي صدى متتالياً في فضائنا الفكري، عائداً إلينا بأجراس المعرفة ونواميس الحقيقة تقرع في أذهاننا.

 ولأن موضوع اليوم حول فن كتابة المقال، والذي لا أزعم أنني جهبذ وفطحل في مضماره، إلا ما سعيت بحثاً عن حقيقة موضوع ما والاجتهاد فيه أخطئ أو أصيب، فأنا هنا سأعكس الحال، إذ أطرح السؤال الجدلي ليس في آخر المقال، بل في مقدمته، والسؤال: لماذا نكتب؟

وإذا حددنا ذلك بالضرورة نحدد عن أي المواضيع نكتب، ولمن نكتب، وبالتالي أي نوع من المقالات نكتب، أهي قصصية، وإقناعية، وتفسيرية. وحيث إن النوع الأول هو الأكثر شيوعاً، إذ إن الكاتب والقارئ يتقاربان أكثر في مسألة السرد والمشهدية التي تتيحها النصوص الوصفية التعبيرية. وهنا أعود لأسأل: لمن نكتب، وما الذي يميّز كاتباً عن آخر، وما الذي يَبْقى في أذهاننا أو يذهب سدى وهباء وزبداً؟

إن أكثر أنواع الكتابة تأثيراً وخلوداً تلك التي تَبْني علاقة عضوية وتحليلية بين الشكل والمضمون، بين النتائج والأسباب، هي بمعنى أدق المختبر الاجتهادي الذي نفكك فيه الحدث..

ونعيد تركيبه من منظورنا الإنساني والفلسفي والاجتماعي، بما يتضمنه ذلك من عوامل الزمن والمكان، وأثر التوقيت بينهما. ولعل الصعوبة في المقال الوصفي هو ضيق المساحة التي تحاصر كاتبه نصّاً وأحداثاً. ولكن المَهَرَة من الكتاب هم الذين يبثون الروح في نصوصهم ليس بالمفردات أو تركيبة جملهم فحسب..

وإنما في ربط الأحداث وبناء العلاقة السببية أو ما يسمى بـ«Causal Link»، كأن نقول: مات الولد. ماتت الأم. إن في ذلك معلومة صمّاء ليس فيها علاقة سببية واضحة، غير الموت الذي يصيبنا جميعاً، وهذا أمر عادي في عالم الكتابة.

ولكن إذا قلنا: «ماتت الأم حزناً على موت ولدها»، فإننا بذلك نفتح آفاقاً تفاعلية جديدة بين القارئ والحدث تستند على تقييم العلاقة العاطفية بين الأم وطفلها. ومن هنا يبدأ التساؤل لماذا وكيف وَمَن ومتى وأين، وبقدر ما يتم الربط بين هذه العناصر بعلاقات وتداعيات سببية، بقدر ما يكون المقال أكثر تأثيراً وخلوداً في عقول ووجدان القارئ وبالتالي سلوكه ومفاهيمه ومبادئه.

وحتى أمنح مقالتي هذه بعداً إضافياً وسببياً موضوعياً، محاولاً بذلك أن أكون مؤثراً في القارئ، إن نجحت في ذلك، أقدّم دواعي كتابة هذا المقالة، وعلى هذا النحو الذي ظهرت عليه المُقدمة بأسئلتها الاستباقية والاستقرائية. والدواعي هي أن بعضنا يستسهل الكتابة الوصفيّة دون بذل جهد لقدح الفكرة باستنتاج علاقة سببية وبعد تحليلي إضافي.

فتكون المقالة وصفية جامدة، عبارة عن مشهد أفقي بلا عمق، ولهذا نجد البعض وقد تحولت مقالاتهم إلى شاهد تعزية لأصدقائهم من الكتّاب الذين قضوا نحبهم أو الأصدقاء الذين حازوا جائزة تقديرية، أو تم اللقاء بهم بعد غياب، أو تلقي إهداء لكتاب ما من مؤلف ما، وتبدأ المجاملات..

 والمجاملات المضادة، فهذا في اليوم التالي من اللقاء يكتب عن الكتاب الذي لم يتسن له الوقت لقراءته إلا مقدمته، إن أمكنه ذلك، وآخر يرد الجميل بالمجاملة، فيكيل المديح بوصف مناقب الكاتب الفكرية، ويرشحه لأحد الحوارات التلفزيونية حول الحقيقة المطلقة في موضوعه، والمراجعات النقدية للمؤلفات الإبداعية.

وصْفٌ على وصْفٍ على وصْفٍ والقارئ تتقاذفه المجاملات الثقافية الواضحة أو المستبطنة. ولهذا نجد أن كثيراً من اللقاءات الاجتماعية بين بعض العاملين في الصحافة، هو الحديث عما قال فلان عن فلان في زاويته اليومية أو الأسبوعية وهكذا دواليك، وكأنهم يكتبون لأنفسهم فقط.

ويمكن أن نكتب عن الآخرين وهم كثر من يصنعون التاريخ ويؤسسون لمنهج الإنجاز والفضيلة والفكر والريادة ونحكي بالعمق السببي كيف أنهم رائدون في مجالاتهم، ورحلتهم الملهمة، أو حتى تجاوزهم لتحد ما، ولكن دائماً السهولة في الحديث عن الآخرين والصعوبة في الحديث عن الأفكار، فالعقول ثلاثة: «كبيرة تتحدث عن الأفكار، وعادية تتحدث عن الأشياء، وصغيرة تتحدث عن الناس». 
 

Email