بين شارعين

ت + ت - الحجم الطبيعي

حاولت راجلاً  متردداً أن أمسك بالثانية الخضراء الأخيرة في عَدّاد الإشارة المرورية على أشد التقاطعات حركة وازدحاماً في كورنيش أبوظبي، وهممت أن أقطع الشارع مغامراً أو متهوراً إن صح القول، ولكنني ترددت لأن العداد التنازلي الأحمر التحذيري قد بدأ يشع بالخطر على إشارة مرور المشاة، فانطلقت السيارات في الاتجاهين المتقابلين، ونحن في المنطقة الفاصلة بالوسط.

وخاب ظني في سرعتي، وجرأتي، فأن أبقى جباناً ملتزماً بقواعد مرور المشاة أفضل ألف مرة من أن أفنى متهوراً جريئاً تحت عجلات السيارات.

رجعت خطوة إلى الخلف وقد خبى زخم حماس التّرَيّض الذي بدأته من نصف ساعة عصر ذلك اليوم الجميل.

وكعادة الآخرين المنتظرين كانت عيناي تتنقل بين اليمين والإشارة الحمراء واليسار، أمقت السيارات على حظها إذ تستحوذ على الطريق بقوة وبسرعة وبمساحة زمنية أطول.

قررت أن أشيح بوجهي عن السيارات وعن ذلك العداد اللئيم الذي بدأ  نازلاً بطيئاً من قمة  60 ثانية.

وها أنا أشارك المنتظرون فرج الله في إشارة خضراء تمنحنا صفارة الانطلاق إلى الضفة الأخرى من الكورنيش بالوصول السريع إلى نهاية هذا العداد الأحمر الممل الساخر الذي يشعرني شخصياً أنني سجين الثواني وحبيس صمت البشر المتكدسين في مساحة الانتظار بين شارعين حيويين، وكأنهم حبيسي مصعد كهربائي بطيء.


ما زال العداد يهبط ثانية فثانية، وأنا الآن نزلت عند الثانية 50، قلت لنفسي، حرر نفسك من هذا الزمن، ولا تنظر إلى معركة الأرقام الحمراء، فأدرت ظهري عن الإشارة على الرغم أنني كنت في مقدمة المنتظرين، فواجهتهم لأسلّي نفسي بالنظر إليهم واهتماماتهم، فابتسمت للجميع، وكأني أهم بإلقاء خطبة ما أو الحديث عن مهارات الترفيه وفن الانتظار بين وجوم البشر وضغط الزمن بين شارعين تعانقهما أسراب السيارات الهادرة.

وبالتأمل في الهيئات والأجناس والنوايا والعيون والأجساد والملابس والإكسسوارات، والأعمار والغمزات والهمسات، واللمسات، شعرت بأن الوقت بدأ يتسارع فلا يسعفني للتعرف أو التكهن، وتمنيت أن يتعطل العدّاد الأحمر للإشارة ليمنحني هذا التأمل الجميل لبني البشر واهتماماتهم ووجهاتهم واختلافاتهم وأمزجتهم ومحاولاتهم الفاشلة على ملء هذا الفارق من الزمن الممل في انتظار "الأخضر".

هذه فتاة آسيوية بلباسها الرياضي الأنثوي وبشعرها الناعم المتطاير يداعب وجهها فالجو اليوم هوائي إلى حد ما،  تستل مشطها وتبدأ بتمشيطه وتثبيته، وعينها لم تبتعد عن الإشارة أملاً أن تُكمِل ترويض شعرها الجامح في الوقت المناسب. وتلك عائلة أوروبية، الأب يمسك بعربة المولود والأم تعتني به وتعطيه جرعة ماء وتداعبه بإحدى الألعاب.

وهذا عربي صائد أسماك بقبعته الدائرية يتأبط سنارته الطويلة، وكرسيه المتنقل، وصندوق الطعم وأدوات الصيد...عيناه كلها أمل بأن صيد اليوم سيكون أفضل من أمس، فالبحر لا نائم ولا مائج. وبدا عليه الافتخار بطول ذراع سنارته بحلقاتها المعدنية وخيطانها الشفافة. وهذه فتاة عربية وصديقتها على دراجتيهما الهوائية تتهامسان حول المرأة التي تمشط شعرها وكلاهما ينظران إلى الإشارة الحمراء.

وهذا أوروبي بسحنة ألمانية، إن ما خاب حدسي، وقد امتطى مزلاجه مثبتا كاميرة فيديو على جبينه ليصور البحر والكورنيش والبشر المتنزهين بسرعة حركته على المزلاج، تتنقل عيناه بين الإشارة وساعة يده مستمعا إلى موسيقى هاتفه المحمول. وفي المؤخرة عامل بناء يتأبط قبعته البلاستيكية الصلبة متوجها في مناوبته المسائية نحو أحد المشاريع السياحية على شاطئ الكورنيش.

وهذا أب يشرح لابنه كيف أن بداية ساحة الانتظار ونهايتها تضم هذا الشريط العريض من النتوءات البارزة على الأرض، وذلك لاستخدام المكفوفين ليستشعروا الحدود الآمنة لنقطة الانتظار بين شارعين.

وهؤلاء أربعة من الفتيات ينتعلن ويلبسن ويحملن كل ما هو خفيف وشفيف، وإحداهن، تدهن وجهها وذراعيها بالواقي من أشعة الشمس قبل الغوص في البحر الذي يبعد فقط ثلاث دقائق من الآن، وكلهن في صمت يرقبن هذا العداد اللئيم البطيء.

وما زال العد التنازلي يتسارع، وأنا أتأمل هذا الجمع المترقب للون الأخضر، وظننت أنني قد شخصت وحللت وأحصيت كل من ينتظر، إلا أنني لم أكن الوحيد في مقدمة المجموعة، فقد باغتني طفل في العاشرة برفقة أمه يربت على ظهري ويمد يده ليسلم علي غير آبه بالثواني الحمراء الأخيرة المتبقية، ففعلت، وحضنني ففعلت، وانتقل إلى المولود الذي أنهى للتو شرب جرعة الماء.

فانحنى عليه وقبّله، وحيّا والديه بابتسامة، وذهب إلى ذات الشعر المتهدل، وقال لها بلهجة لم أفهمها، ولكن معناها أن شعرها جميل، وصافح الفتاتين ولمس دراجة إحداهما وثبتت نفسها كي لا يختل توازنها، وما زالت أمه تمسك بيده حرصاً عليه وهو يتقدم الخطوات المعدودة بين المنتظرين المتربصين بالثانية الفاصلة بين الأحمر والأخضر. 

ولمس سنارة صيد السمك بهدوء وعانق عامل البناء واستعار قبعته للحظة ووضعها على رأسه، وانتقل إلى الفتيات الأربع، صافح الأولى والثانية والثالثة وعانق الرابعة وبقي معانقاً إياها، تأملنا جميعنا هذا الطفل الجميل البسيط العفوي المصاب بـ "متلازمة داون" وهو يبث حنانه الكبير وحبه المجاني وطاقته الإيجابية رغم  ضغط الزمان وضيق الوقت. استطاع بحنانه وألفته أن يقرّب الجميع من بعضهم على اختلاف جنسياتهم واهتماماتهم واتجاهاتهم قرّبنا إلى أنفسنا ووحدنا ببعضنا فسَرَى جماله الحي فينا وبيننا دون تكلف أو ادعاء.

بمتلازمته الرقيقة وبراءته، وبعفوية وحب  بعث الطمأنينة وكسر جمودنا في الثواني الأخيرة ونحن القلقين المتوثبين في انتظار الأخضر. أما أنا فتأملت نفسي واستعدت بداية انتظاري وكيف أني بِمكْر خفيٍّ رمَقت وتفحّصت وتكهّنت الآخرين أمامي لأقضي هذه الثواني المملة بالتسلية بشؤون البشر.

ولأن عداد الإشارة الخضراء قد بدأ، ولا بد أن نقطع الشارع باتجاه الكورنيش، كل حسب وجهته واهتمامه ومبتغاه.  انطلق الجميع مسرعين إلى الضفة الأخرى حيث تعج بالمتنزهين والمتريّضين والسابحين، ولبطء حركته كان الطفل آخر من قطع الشارع برفقة أمّه يشير للجميع بتحية الوداع والسلامة، ولم يلمح تحيته غير أمه وأنا البعيد البعيد.
 

 

Email