التائه في فقاعته

ت + ت - الحجم الطبيعي

يطلّ قادما من بعيد، فيختلط الأمر: هل هو ذاته الشخص الذي قابلته مصادفة، ويقترب أكثر نحوي بابتسامته العريضة، فأردّ بمثلها احتراماً ودرءً للحرج، ولكن ما زال غموض هيئته يربكني أكثر،  سيما أنني بدأت أبحث عن نظارتي الطبية على طاولة المقهى  لتساعدني فأتعرف على المبتسم ، ويقترب أكثر ويزيد ارتباكي، وأتحايل بإشارات ترحاب أوسع، فما زلت أبحث عن نظارتي.

ويعلو التساؤل في ذهني: أهو ذاته الذي قابلته سابقاً أم شبيهه.

حلة جديدة، نظارة شمسية عاكسة تغطي الثلث الأعلى من الوجه، تسريحة شعر استثنائية انتصبت نهاياتها المتشحة بالشقار إلى الأعلى بمثبت الشعر صمغي اللون، ذقن تموج فيه منحنيات شعر الوجه الأسود، خاتم يتلوى على إبهامه يشع بلون الياقوت وكأنه إعلان لإعادة الاعتبار للأعضاء الصغيرة في الجسم، ويقترب أكثر فأكثر، ويزيد الارتباك، اختفت نظارتي تماماً، يلوح  بيده  حاملاً هاتفين جديدين، بسماعتي أذن بيضاء وأخرى سوداء. أ

هو ذاته يا ترى! يتمايل مترنحاً على الموسيقى التي يسمعها عبر أحد هواتفه المحمولة، ويزيد من تمايله تقاطع مرتادو المكان الذين يتحركون بيننا. بين مد اليقين وجزر الشك، تيقنت، إنه ذات الشاب الجامعي الذي التقيته مصادفة قبل أيام برفقة صديق عمل لي في نفس المقهى.

وفي اللحظة التي فوجئت بنظارتي على رأسي، وصل طاولتي متهكما، وقد مد يده للسلام: لا داعي لها، فقد اقتربت بما فيه الكفاية لتعرفني بدون نظارة، وقال ساخرا: يوجد اختراع اسمه "ليزك"، وأردف:  لا تعرف كم سعادتي بأنك لم تتعرف علي بسهولة، فهذا يثري شخصيتي ويمنحني الثقة، فأنا لا أحب الروتين لا في الملبس ولا المظهر ولا اللون أو الرائحة.

لذا لدي من النظارات الشمسية، والطبية، ومن الخواتم والهواتف واكسسواراتها، وساعات اليد المزركشة، والعطور، ما يساعدني على ذلك، ناهيك عن الأحذية بألوانها مقطوعة الرأس، والمحدّبة وذات المنقار والمعقوفة، وبناطيل الجينز بأنواعها الممزق والمنتّف والمشَرشَر والمخطّط والملوّن والمرقّع والمزخرف، والمسلسل والمشنشل، والمتسخ والمحروق والمكبوس والصاعد والساحل،...إنه التجديد الذي يقهر الروتين ويقتل الفراغ ويحيي الميّت في داخلي كل لحظة.

وبهذا أغرف من الحياة، فأنا يومياً أحيا من جديد ألف مرة،  فمثلا، اليوم أنت صنعت يومي وأبهجتني إذ فاجأتك، فبدوت شخصاً جديداً وغريباً عليك، وفي المرة المقبلة إن صادفتني سأكون مختلفاً، وبابتسامته الرمادية خلف نظارته الشمسية الكبيرة يضيف: هذه حياتي بلا حدود وبلا قيود، سكت برهة، وقال: انطلق، نحن في القرن الواحد والعشرين يا صديقي!!! قالها وكأنه يقرع جرس الانذار في أذني ويقول لي استيقظ من روتينك الممل.

ولأنه لا تربطني بهذا الشاب الجامعي سوى صديق مشترك وصدفة محضة، فقد وضعته في قائمة ما أسميها "البلاك لِسْتْ" أو القائمة السوداء، حيث لا تاريخ ولا أفق بيننا. تأملته صامتاً وهو لا يتوقف عن الثرثرة وعن "أسرار الحياة". 

قلت له: مصادفة جيدة أن أصادفك ثانيةً، ما أخبار صديقنا المشترك؟ فأومأ برأسه أنه لم يعد صديقه، قالها مكابراً، وتابع: لي من الأصدقاء الجدد ما يكفي أن أفقد كل يوم صديق قديم...إنها إحدى أسرار التجدد في الحياة، ورفع رأسه، وبدت  إحدى عيناه من أسفل نظارته، ليقول حكمته وبدا لي أنها ديباجاته حول التجديد: "من كان يومه مثل أمسه فبِئسَ غَدُه". 

قالها مثبتاً نظارته السوداء التي لم يكن لها ضرورة  في مكان مغلق يلفّه الظل وترقد العتمة في زواياه... أشعل  سيجارته بُنيّة اللون، وأشار إليها ودخانها يتصاعد على نظارته الشمسية كشرخ أبيض في سوادها:  إنه تبغ جديد وصحيٌ، فيه الكثير من النيكوتين والقليل من الدخان.

أما أنا وقد فاض بي الكيْل، من تلك "الأنا" والنرجسية العالية، سألته: أتشرب القهوة؟ فقال نعم، أحب الكابوتشينو بخليط نكهات البندق واللوز والكاراميل معاً، فقلت: هذه خلطة فريدة من نوعها لم أسمع بها من قبل، فرد ممتلئاً بذاته وهو يداعب عِقدٌ سميك مجدول من الذهب حول عنقه، نعم فريدة، خصوصاً مع هذه السيجارة، وضحك بملء فمه فاستوقفني شيء يلمع في فمه، سألته ما هذا، فقال إنه "حَلَقُ اللسان" فللسان حلَقٌ كما للأذن زينتها، أعبر عن نفسي بحرية وأتذوق الطعام أفضل قالها ساخراً.  

 أصابني "صديقنا" التائه في فقاعته ودهاليز "التجديد" بالغثيان، وودت أن لدي متسع من الوقت لأحاوره، فأنا أؤمن بأن العطار قد يصلح ما أفسده الدهر، ولكن ليس لدي متسع من الوقت، حان موعدي اليومي، فاستأذنته، فقال: إلى أين إنشاء الله؟ أخبرته: يجب عليّ الذهاب لأزور صديقي القديم فقد استفحل به مرض خبيث وهو في الثلاثين من عمره، وهو يعدّ أيامه الأخيرة في بيته.

رفع "صديقنا المتجدد" نظارته عن عينيه إلى رأسه، وبدا عليه الخوف والصدمة، وقال بارتباك: لماذا البيت وليس المستشفى، قلت:  تم نقله إلى منزله ليقضي أيامه الأخيرة بين أهله وزوجته وأطفاله الأربعة، وأنا أحد ثلاثة أصدقاء قدامى قد عاهدنا أنفسنا أن نضحكه يومياً.

كان الشاب الجامعي ينصت إلى دراما ثلاثية "المرض والألم والموت". حدّق في عيني، وسألني: هل حقاً تضحكونه. نظرتُ في عينيه الجاحظتين ووجهه المتوتر. فابتسمت له، ولم أجبه. وبهدوء أنزل نظارته الشمسية إلى عينيه.

وقال بصوت متهدج: الموت يحوم حولنا بأشكال مختلفة، ونموت يومياً ألف مرة دون أن نُسجّى إلى قبورنا. دفعت الحساب كاملاً، وَدّعتَه وحيداً في المقهى خلف نظارته السوداء مطأطأ إلى ساعة يده المزركشة بالمؤشرات والهوامش والعقارب والألوان والدوائر والأرقام والمواقيت. 

Email