بين المصادرة والحرق

ت + ت - الحجم الطبيعي

استأصلت هيئة حماية البيئة في جنوب أفريقيا، قرون بعض وحيد القرن المهددة بالانقراض لإقناع المتربصين بالحياة البرية، أن يعدلوا عن رأيهم في اللحظة الأخيرة، قبل اقتراف جريمة القتل بالصيد الجائر، إذ قد يدركون أن لا جدوى من القتل ما دام «الجوهرة القرن» قد انتزعت سلفاً، فتكون إما الرحمة بالحيوان، أو الانتقام والقتل لأجل القتل فقط.

من جهتها، نشرت بريطانيا جنوداً من قوات النخبة لمساعدة القوات التي تقاتل «حركة شباب المجاهدين» الصومالية الإرهابية على الخطوط الأمامية في كينيا، لمنعها من استهداف الفيلة ووحيد القرن لتمويل إرهابها، والذي يُعتقد أنه يدّر عليها ما يصل إلى 400 ألف جنيه إسترليني كل شهر.

وتشير الإحصاءات إلى أن الصيد غير المشروع الجائر لحيوانات وحيد القرن من أجل قرونها ارتفع بنسبة 3000 % في السنوات الأخيرة، ويجري حالياً قتل واحد من هذه الحيوانات كل 11 ساعة من قبل العصابات الإجرامية.

وكما إرهابيو الصومال يدمرون البيئة من أجل المال، أيضاً إرهابيو «داعش» يدمرون التاريخ ويتاجرون بما خف وزنه من الآثار لتمويل آلة القتل لديهم. إنها مقاربة تستحق التوقف، فالبيئة والتاريخ والثقافة ضحايا رئيسة للإرهاب، وتستخدم عوائده في السوق السوداء والتهريب لقتل الإنسان.

وإذا استطاعت الجهات البيئية في جنوب أفريقيا أن تنزع العاج من منبته درءاً للجريمة، أو تحرقه فتموت قيمته، فإن الحال ليس كذلك بالنسبة للتحف الآثارية، بل يجب الاعتناء والاحتفاظ بها وصونها لأهميتها وغزارة دلالتها وعرضها لتحكي التاريخ القديم لها، والمأساة الحديثة التي أصابتها، بل أرى أنه لا يجب إعادتها إذا كان منشأها غير قادر على حمايتها أو احترامها، وأستحضر مقولة للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، إذ يقول، ما يصيب الآثار من مصائب وتغيرات وأحداث، هي «جزء من تاريخها».

ومن هنا، يجب أن يعبّر واقعها المزدهر أو المرير، الحفظ أو التدمير، الحماية أو التهريب، عن حالتها وواقعها، ويدل على حراك مسارها التاريخي ومؤثراته ومعطياته.

لو حاولنا أن نقارب مفهوم «فوكو» حول التاريخ ونسقطه على الواقع البيئي المقلق والمفزع، بسبب اقتراب انتزاع سلالات بعض الحيوانات من قائمة الوجود من أجل عاجها، فإن عشرة أطنان من العاج الخالص والمزخرف، قد تمت مصادرتها من منافذ مختلفة في إمارة دبي، تشكل ثروة كبيرة في تاريخ التوعية الإنسانية بأهمية حماية البيئة.

إن نحن جعلنا منها وسيلة توعية مستدامة وصادمة لمن يشاهد هذا الشاهد على الجشع وقسوة البشر باقتراف القتل بالصيد الجائر، وتوظيف أمواله لتدمير المجتمعات، والسؤال، كيف نصنع تاريخاً جديداً لهذا العاج الذي قد ينتهي بحرقه ونثر رماده في حاويات النفايات.

ولا يتذكر المشاهد سوى شعلة الحرق على شاشات التلفاز. وكيف نجعل تأثيره مستداماً، ويكون فعل إتلافه جزءاً من تاريخه القائم، وليس الزائل والغائب؟!.

وحين أُعلِنَ، عملاً بالإجراءات الدولية، أنه سيتم حرق هذه الأطنان، لتكون صرخة توعوية يسمعها الجميع، انهالت بعض الاقتراحات التي تدعو إلى عرضها، كما هي، في معرض توعوي، وأخرى إلى بيعها والتبرع بعوائدها إلى المؤسسات الخيرية التي تهتم بالبيئة.

وأنا شخصياً، لا أتفق مع هذا ولا ذاك، ولا أيضاً مع تدميرها بحرقها الكامل. وانسجاماً مع مقولة «فوكو»، وعملاً بسياسة الابتكار والتفكير غير النمطي، فيمكن أن نجمع بين المقترحات الثلاثة، أي الحرق، العرض، والبيع.

إذ يمكن تقسيم العشرة أطنان بتنوعها إلى مجموعات محددة، ويتم حرقها بمستويات مختلفة، ابتداءً من الرماد مروراً بالهشاشة، ومتوسط الحرق، وقليل الحرق، وشبه الحرق، فتكون لدينا سلسلة من المعروضات بنسب احتراق متفاوتة، بل إن عبوات من قوالب زجاجية محكمة يمكن تعبئتها بالدخان المنبعث عن الحرق، وكذلك عبوات أخرى من رماد العاج.

فضلاً عن الصور والمطبوعات والتوثيق الفيلمي للمشروع التوعوي البيئي. وبذلك يتم العرض المستدام، وبيع الرماد والدخان المعبأين، وبيع بعض المعروضات من بقايا العاج المحروق، الذي لا يشكل عملاً فنياً، بقدر ما هو توعوي.

ويؤخذ بعين الاعتبار، الإبقاء على قرن واحد من وحيد القرن، ونابين للفيل، سليمين، ليدرك المشاهد رحلة العاج من الصيد الجائر إلى المتاجرة إلى المصادرة إلى الحرق. ويُرصد ريع هذا المعرض لجمعيات حماية البيئة في البلدان التي تعاني وتكافح الصيد الجائر لوحيد القرن والفيلة.

 إذاً، أشعلوا بها النيران، ولكن أظهروا قصتها المحزنة من على نبع في غابات السافانا في جنوب أفريقيا، إلى مصادرتها، إلى أتون الحرق، ليزيد الحزن عند المشاهد ابن البيئة، والألم عند الشاهد، والندم عند الفاعل، هذا إن أدرك بشاعة فعلته وتداعياتها.

 

Email