من مفكرة طالب بدون بعثة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعيداً عن الهموم العامة، أريد في هذا المقال أن يشاطرني القارئ الكريم بعض الخواطر التي رافقت رحلتي إلى فرنسا للدراسة،

في النصف الثاني من سنوات السبعينيات وتحديداً خلال أعوام 1977، شهدت مصر زلزالاً سياسياً كبيراً، بدأ بزيارة السادات للقدس في 1977، ومر بتوقيع اتفاقيات كامب دافيد عام 1978 ثم توقيع المعاهدة المصرية الإسرائيلية عام 1979، وأخيراً وليس آخر تبادل العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإسرائيل عام 1980.

ووصف ما شهدته مصر من تطورات خلال هذه الأعوام بالزلزال، لا يحمل بالضرورة مبالغة من أي نوع لأن هذه التطورات فاقت أي مخيلة وخيال سياسي، حتى لبعض أقرب معاوني السادات «وزير خارجيته» إسماعيل فهمي، الذي بادر بالاستقالة من منصبه حينئذ وأن هذه التطورات أعقبت انتصار أكتوبر عام 1973، والذي رآه الكثيرون مسوغاً لتسوية متوازنة لا تحدث تصدعاً أو شقاقاً إن في الداخل أو الخارج وبخاصة بين مصر والدول العربية.

كنت رافضا لهذه التطورات ككثيرين في الحركة الوطنية المصرية، دفعني هذا الرفض للبحث عن ملاذ آمن، بعيداً عن تأثير تداعيات واحتمالات ونتائج تلك التطورات غير المألوفة .

قادني هذا البحث إلى التعرف على أستاذي الدكتور محمد دويدار أستاذ الاقتصاد في جامعة الإسكندرية وطلبت منه تدبير منحة دراسية في فرنسا وإن هي إلا أشهر معدودة حتى تمكن من تدبير هذا الأمر، وشرعت على الفور في تحضير أوراقي للسفر.

كان يوم 26 مارس عام 1980 يوماً مشهوداً في تاريخ مصر، حيث كان اليوم الذي يبدأ بعد تبادل العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، ويرتفع العلم الإسرائيلي في مصر والعلم المصري في تل أبيب، كان المناخ السياسي والفكري حافلاً بالرفض والارتباك والحيوية في الوقت ذاته.

في هذا اليوم وقبل سفري إلى باريس بعدة أيام، ذهبت مبكراً إلى الأهرام على غير العادة، وبعد أن سجلت اسمي في كشوف الحضور، تسللت خارج الأهرام لأرى ما يمكن عمله، بحثاً عن مشاركة أو إسهام في احتجاج رمزي على الأقل على هذه التطورات، خرجت وحيداً هائماً على وجهي في شوارع القاهرة، بدأت رحلتي الصغيرة هذه بالمرور على مقر حزب التجمع الوطني التقدمي باعتباره رمز اليسار الذي أنتمي إليه، ويبدو أن الوقت كان مبكراً وأن الفعاليات التي سيقوم بها قد تبدأ متأخراً.

ولكني وجدت مقر الحزب يتناثر حوله بعض المخبرين المعروفين بهيئاتهم وملامحهم، فقفلت راجعاً إلى نقابة الصحافيين، ولدى وصولي إلى مقر النقابة، فوجئت بتجمع حاشد أمام نقابة المحامين وجمهور ثائر يردد شعارات المرحلة، فلم أتردد وحاولت دخول مقر النقابة، وعندما اعترض القائمون على تنظيم تلك الفعالية بحجة أنها للمحامين فقط، تفتق ذهني عن كذبة بيضاء، قلت اني صحافي بالأهرام أرسلتني صحيفتي لتغطية هذا الحدث الكبير.

كانت الإجابة مقنعة وموحية بل مرضية للمنظمين من حيث ان للحدث صداه وأهميته إلى هذا الحد.

دخلت إلى القاعة المخصصة للاجتماع، كان المناخ صاخبا وغاضباً وكانت الكلمات قوية بقوة الحدث والتطورات، قلت لنفسي ها قد جاءتك الفرصة لتبوح بما في صدرك من غضب واحتجاج وتشارك ببضع كلمات، وطلبت الكلمة، ولم يتأخر منظمو الاجتماع في منحي إياها، أذكر من بين ما قلته «ان هذا اليوم – أي يوم تبادل العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإسرائيل، ليس كمثله يوم، أنه يوم طوله يقرب من المئة عام منذ مؤتمر بال في سويسرا في نهاية القرن التاسع عشر وحتى عام 1980 ليصل المخطط الصهيوني إلى الاعتراف والتبادل».

كان وقع الكلمة على الحضور حسناً وحظيت ببعض التحية والتصفيق رغم مشاعر الغضب والحزن، شعرت بارتياح كبير بعد إلقاء هذه الكلمة، رغم علمي أن الكلمات مهما كانت قوتها ليست بديلاً للعمل والفعل، ورغم ذلك استكملت مسعاي للسفر أو إن شئت للانسحاب إلى الملاذ الآمن الذي تصورته في باريس.

سافرت إلى باريس في الثامن والعشرين من مارس عام 1980، ورغم شعوري بالارتياح بعد مؤتمر نقابة المحامين إلا أن الشعور بالتقصير والذنب لم يفارقاني، بل ظلا يلاحقاني رغم البعد المكاني والجغرافي على الأقل في البدايات الأولى لإقامتي في فرنسا.

 

Email