تايمز سكوير

ت + ت - الحجم الطبيعي

كنت في مهمة عمل بمدينة نيويورك، قلت لنفسي: أما وقد وانتهى العمل بنجاح سأكافئك بقليل من التسكع في بلاد الله البعيدة، وعلى عجَلٍ قفزت من أريكتي وأطفأت التلفاز ونزلت من الفندق الذي يقع في منتصف شارع «تايمز سكوير» شريان نيويورك النابض بالبشر والإعلانات، والألوان، والمسارح، والمقاهي والمطاعم والفعاليات الترفيهية العامة وأضواء أشهر العلامات التجارية وغيرها.

لم آبه كيف أبدو للآخرين، فلا أناقة الألوان على ملابسي تهمني ولا نظافة حذائي تؤرقني، ولا ذقني النابت بعشوائية البياض على وجهي يزعجني.

وأنا الآن في عداد المجهولين لا مراسلات إلكترونية، ولا اتصالات عمل ولا التزامات ولا غيره. أمشي متسكعاً لا أكترث بالوقت ... لا أحد يرمقني أو يرسل لي إشارات الاستغراب أو الحكم المسبق بناء على مظهري غير الأنيق.

فلا يهمني أي شيء هذا المساء، فأنا عابر سبيل زاد شعوري بأنني حرٌ حين تفحصت عيون المشاة فلم ألمح فيها أي فضول أو تساؤل عني كزائر أو غريب، فالكل مشغول بنفسه، إما ذاهب إلى العمل، أو ممارسة هواية ما، أو متجه إلى البيت، أو التسوق، أو التريّض.

فشعرت بالراحة حد القلق حيث لا أحد يسألني هامساً: من أين جئت، ما دينك، وما اهتماماتك، كم لديك من الأولاد والزوجات، وما ترتيبك بين أفراد عائلتك، ما برج ميلادك، ومن أي المواليد أنت وغيرها من الأسئلة الشخصية التي نجد أنفسنا مضطرين للإجابة عنها عنوة وحرجاً، وقررت أن لا أسأل من أصادفه وأتحدث معه، لا عن جنسيته، أو ديانته أو وزنه أو عمره كان رجلاً أم امرأة.

وبذا أضمن أنني أذوب بامتياز وأختفي في النسيان كإنسان بين شتى الأعراق والمنابت ليوم واحد من حياتي. وساعدني في ذلك أن ملامحي العربية غالباً ما تلتبس على الكثيرين من الأعراق إلا على العرب أنفسهم فهم يرمقونك عن بعد ويعرفونك مهما أخفيت علاماتك الفارقة التي غالبا ما تفضحها لغة جسدك كعربي.

بينما أنا في غمرة الحرية المطلقة، وقد نزعت عن نفسي كل ما يكبلها، إلا حالة التسكع الذي يحلو للسائح أن يعيشه، وتهت في الزحام، وبدأت استعرض المحال فنظرت إلى واجهة إحدى المحلات التجارية الراقية حيث تم عرض الملابس بكامل أناقتها، ولكن باغتني ظهور آدمي خلف زجاج واجهة المحل، إذ بدا لي وأنه يشبهني، ويرمقني، حركت رأسي يمينا فحرك رأسه شمالاً، وتراجعت إلى الخلف فتراجع هو أيضاً، وخلعت قبعتي لأتأكد أنه انعكاسي في زجاج الواجهة فخلع قبعته.

وبديت للحظة أنني أحيي نفسي بالطريقة الغربية التي لا أفهمها ولا أجيدها، فأنا لست في تلك اللحظة أمريكيا من تكساس ولا راعي بقر يجيد التحية بملامسة القبعة أو رفعها عالياً عن الرأس، ولست في ذات اللحظة عربيا تملأه لغته وسلوكه وثقافته، فقد ألقيت بلغتي وثقافتي على الأريكة في غرفة الفندق وأعطيت نفسي عن قصد إجازة أستريح فيها من هويتي وثقافتي.

وفي لحظة المفارقة المريرة والمضحكة التي شاهدت فيها نفسي بالمرآة ولم أتعرف عليها للحظة، وقد التبس علي الأمر فلا أنا من تكساس أو نيويورك ولا أنا من بغداد أو دمشق أو عمّان أو غيرها، أدركت أنني أخوض لعبة عقيمة وجارحة ومهينة، فأن يكون المرء مجهولا في بلاد غريبة يجب عليه أن لا ينزع القداسة عن هويته وقيمه، لأنه إن فعل سيكون حتما نكرة وعبئا على نفسه.

وبينما كنت أتأمل ذاتي وأحاورها وأعاتبها وتعاتبني وأنظر إلى القبعة في يدي، خرج أحد العاملين من المحل الفاخر: وتحدث لي بالعربية وباللكنة الشامية القُحّة، أهلا فيك، تفضل حبيبي، في عنا خصومات تأخذ العقل، فابتسمت له خجلاً، ووضعت القبعة خلف ظهري، وسألني الأخ عربي، من أين؟، وأردف مجيبا قبل أن أنطق بكلمة واحدة، أنت من المغرب العربي أو الأردن؟.

أهلا فيك، في كتير عرب يشتغلون في نيويورك وأنا واحد منهم. شكرته، ولم أدخل المحل، وعدت مسرعاً إلى الفندق وإحساس أن كل المارة يحدقون فيّ لسبب ما أجهله.

في صباح اليوم التالي، نزلت من الفندق وتجولت في الشارع السياحي الكبير مع قهوتي الصباحية فرحا بكل شيء حولي بلا قبعة، وشعرت وكأنني أزوره للمرة الأولى، وفي الظهيرة حزمت حقائبي عائدا إلى بلدي وفي ذاكرتي أعمق الذكريات وبحقيبتي أجمل القبعات.

 

Email